عندما يحدّثنا إبراهيم العرجاني في "نيويورك تايمز"
المعلوم عن النائب المصري، مصطفى بكري، أنه قبل علوّ كعْبه في حواشي السلطة في بلده، صحافي ترأَّسَ تحرير غير صحيفة. ومؤدّى هذا أن عليه عندما يتكلّم، في برنامج تلفزيوني له في فضائيةٍ مصريةٍ، عن مادّة صحافية، أن يعرّف مشاهديه ومستمعيه بجِنسها بالضبط. فليست مقابلةً مع إبراهيم العرجاني (يلحّ على صفتيْه المهندس الشيخ) ما نشرتها صحيفة نيويورك تايمز في 20 يونيو/ حزيران الجاري، وإنما هو تقريرٌ، تضمّن إجاباتٍ من هذا الرجل عن أسئلة صحافيَيْها، فيفيان لي وعماد مكّي، في مكتبه في القاهرة، مع ردود غزّيين عليها، تُكذّبها إلى حدٍّ بعيد، ساهم في محاورتهم مراسلٌ للصحيفة في القدس، آدم ريسغون. وبذلك، لسنا أمام مقابلةٍ مع الرجل، كما زعم بكري محتفياً بها، وإنما أرادت الصحيفة العتيدة في تقريرٍ لها التعريف بـ"الملياردير المتّهم من الفلسطينيين الفارّين من غزّة"، وهذا عنوانُه. وأرادت بسْط ما يُكابده الغزّيون الذين يخرُجون من القطاع من أكلافٍ مادّيةٍ باهظة، ومعاناةٍ إنسانية، بسبب مطالب شركة هلا، وهذه واحدةٌ من شركات العرجاني، "تنسّق" خروجَهم وتنقلُهم إلى الأراضي المصرية، بعد دفع الشخص فوق السادسة عشرة عاماً خمسة آلاف دولار أو 2500 يدفعها من هو في سنٍّ أقلّ. ولئن حاوَل "الزملاء" الثلاثة الذين أعدّوا المادة الصحافية المشغولة جيّداً أن يعطوك إحساساً بحياديّتهم في شأن المسألة التي يقاربونها، فإن هذا الإحساس لا يصمُد تماماً، فثمّة شخصٌ أُعطيَ الفرصةَ ليقول ما يريد، وأعطيَ آخرون معنيّون أنْ يردّوا عليه، فتخلُصُ، أنت القارئ، إلى صِدق ما قالوه، وكذب ما قاله.
لا تسمّي الصحيفة الأميركية إبراهيم العرجاني شيخاً ولا مهندساً، بل صاحبَ "مجموعة العرجاني" التي تضمّ شركة هلا، وإنْ يصف نفسَه مُساهماً فيها، ويقول إن دورَه محدودٌ فيها، ويعرّفها بأنها "شركة سياحية"، أنشئت في 2017 لتقديم خدمات "VIP" للمسافرين الفلسطينيين الذين يريدون خدمةً راقيةً للخروج من معبر رفح. ولم يكن ما أفضى به لسائلَيْه ليستحقّ اكتراثاً، كالذي تقوم به هذه السطور، لولا فائضُ الكذب فيه. ولذلك، أخذت "نيويورك تايمز" بالاحتراس المهني، فاتَّجهت إلى سؤال ما يجوز لصاحب هذه المقالة أن يعدّهم ضحايا لهذا الرجل الذي يعدّ من أركان أجنحةٍ أمنيةٍ نافذةٍ في السلطة في مصر. ويُضحِك قرّاء كلامِه عليه، عندما يقول إن ما أجبَر الشركة على رفع أسعار النقل من غزّة الطلب المتزايد، وإنَّ ما يُقال عنه وعن آلاف الدولارات التي يدفعها غزّيون منكوبون مشرّدون إنما هو حملةٌ لتشويهه، مصدرُها وسائلُ إعلامٍ مرتبطةٌ بجماعة الإخوان المسلمين.
لم تأت "نيويورك تايمز" بالذئب من ذيله عندما أوردت شهادات عدّة ضحايا من أسر غزّية دفعت المبالغ الباهظة، ولم يتوفّر لها النقلُ بالحافلات الممتازة ولا وجبات الطعام الشهية، على ما قالوا، مكذّبين العرجاني نفسه، فقد تابعت هذه المصائب فضائياتٌ وصحفٌ ومواقع إخبارية عدّة. وإنما الجديد أنها سألت المسؤول الأول عن هذا "الابتزاز" (التعبير للكاتب وليس من "نيويورك تايمز")، الذي يجلّه الصحافي السابق مصطفى بكري، ربما لأن هذا يُفصح للصحيفة الشهيرة بحبّه الرئيس عبد الفتاح السيسي. ولافتٌ أن صحيفة هآرتس أعادت نشر التقرير، باسم المراسل في القدس. ولافتٌ أن وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قال، في فبراير/ شباط الماضي، إن حكومة بلاده لا تدعم هذه الرسوم العالية (خمسة آلاف دولار)، وإنها ستُلغيها، لكن هذا الإلغاء لم يحدُث، فقبضَت شركة العرجاني مئات ملايين الدولارات عن مائة ألف غزّي (وغير غزّي) غادروا القطاع في الأشهر الثمانية الماضية. وفي الغضون، لم يأتِ الزملاء في الصحافات والتلفزات العربية والأجنبية التي تقصّت في هذه البدعة المصرية الشائنة، والتي لم يكن لها لتكون لولا إسنادٌ أمنيٌّ وحكوميٌّ رسميّان، على استقالة ما تسمّى قيادة منظمّة التحرير الفلسطينية من مسؤوليّاتها عندما لا تُخاطب السلطات المصرية في هذه القضية. كما لم تأت "نيويورك تايمز"، في إضاءتها أخيراً ما يؤثَم به إبراهيم العرجاني بشأن أهل غزّة، على "التنسيق" الذي تشترطه إسرائيل على السلطات المصرية بشأن كل من يخرُج من القطاع، أيّاً كانت جنسيّته، أي موافقتها، وهذه "تؤمّنها" شركة هلا ... ثم يتفاصَح مصطفى بكري بالذي تفاصَح به عن "الشيخ المهندس".