أصيلة... كل هذه الوداعة

02 نوفمبر 2024

من زقاق المدينة العتيقة في أصيلة (العربي الجديد)

+ الخط -

يُساء إلى المدن عندما ينظر إليها زوّارها بعيْن السائح، فهذا يُبعدك ليس فقط عن أنفاس ناسِها وساكنتها والبشر الذين يعمّرونها، بل أيضاً يُخفي عنك ظلالاً ونبضاً حيّاً فيها. غير أنك لمّا تكون زائراً لمدينةٍ تتوفّر على مقادير باهظةٍ من السكينة، يكون طبيعيّاً أن تنشغل حواسُّك بالذي تلتقطُه عيناك مما قدّامك من جديدٍ ورائق، وجميلٍ من قبلُ ومن بعد. هكذا أراني، في مدينة أصيلة على ساحل الأطلسي في أقصى الشمال الغربي للمغرب، أتفرّج في الناس كثيراً. وأجعل عينيّ تجولان في الفضاء المفتوح، في البحر المنبطح، في النوارس الفرِحة، في السماء المغلّفة بغيوم مطرٍ زارَنا، في السور الذي يُحيط بالمدينة العتيقة، بالجدران التي رُسمت عليها لوحاتٌ ومشهدياتٌ عريضةٌ بألوانٍ بلا عدد، بالحيطان البيضاء، بميادين وحدائق وشوارع وساحات رائقة (ساحة ابن خلدون مثلا). أغبط الشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي على بديع قوله إنك "هنا (في أصيلة) تحسّ بشهوةٍ عارمةٍ للحياة. تشتهي أن تكون قطّة تطلُب لُطف الملامسة. جدران أصيلة نشيدٌ هامسٌ للأيدي التي شكّلتها". أتذكّر الآن، في زيارتي هذه، الثانية، المدينة، ضيفاً في منتدى موسمها الخامس والأربعين، تعرّفي أوّل مرّة على اسم هذا الشاعر، في زيارتي الأولى قبل 32 عاماً، ذات موسمٍ للمنتدى. أبّنوه في مرثياتٍ ومطالعاتٍ في ندوةٍ عنه، وأعلن يومها رئيس المنتدى، ورئيس المجلس البلدي للمدينة (ولا يزال المنتخَب دورياً منذ 40 عاماً)، ووزير الثقافة في المغرب في حينه، محمّد بن عيسى، عن إعطاء حديقةٍ في أصيلة اسم هذا الشاعر، ثم صارت الأولى بين سبع حدائق تتالت تسمياتُها، محمد عزيز الحبابي، بلند الحيدري، الطيّب صالح، محمد عابد الجابري، محمود درويش، أحمد عبد السلام البقالي (وهناك ميدان محمد شكري وساحة ليوبولد سنغور).

المدينة صغيرة، سكّانها نحو 38 ألفاً (أقلّ من عدد شهداء الإبادة في غزّة)، تبعد 40 كلم جنوباً عن طنجة. صارت من أشهر مدن المغرب، بعد الذي أحدثه لها المنتدى من ذيوعٍ شاسع، وقد شارك في مواسمه آلاف التشكيليين والشعراء والأدباء والمفكّرين والأكاديميين والخبراء والسياسيين والإعلاميين، العرب ومن كل القارّات. ترتبك إذا ما فتّشتَ في معاجم العربية عن مفردةٍ تصف الأناقة والنظافة واللطافة فيها، ... لا ازدحامات مرورية، ولا اكتظاظ في أي شيء. في وسعك القول إن فائض الوداعة هو السّمتُ الأصفى والأوضح فيها، إذ تغشاك هنا سكينةٌ غزيرة. لم أستطع عدّ الحدائق الصغرى والفسيحة، ولا اللوحات المحميّة جيّداً على جدران المدينة العتيقة ذات الأبواب الخمسة. قرأتُ أن عدّة نوبات تخريبٍ ودمارٍ تعاقبت عليها منذ احتلّها البرتغاليون (1471)، وهم الذين بنوا أسوارَها المنيعة، وشيّدوا أبراجاً ضخمةً مجهّزة بالمدافع والأسلحة النارية، و"حوّلوها إلى مجرّد قلعة محصّنة". يحبّها الأجانب للزيارة والسياحة وللإقامة، وفيها جاليةٌ إسبانية لأفرادٍ منها مطاعم ومصالح. تعرّضت لأكثر من غزو، واستولى عليها الإسبان، قبل أن يغادروها في 1589، ثم عادوا إليها محتلّين في نهاية القرن السابع عشر، وقصفها النمساويون في 1829 والإسبان في 1860. ومقاطع كهذه من تاريخها ينطق بأن أزيلا (تسمية أخرى لها) كان لها موضعها في خطط الغُزاة الذين تعاقبوا على المغرب، لموقعها الخاص، وجغرافيتها، ولمينائها.

مما حدّثنا عنه معارفنا في أصيلة، مدينة العلماء والأولياء والمتصوّفة، إنها كانت في حالٍ بائسٍ قبل أن ينشط في خدمتها اثنان من أبنائها، محمّد بن عيسى ورفيق عمره التشكيلي الراحل محمّد المليحي، منذ شبابهما في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وهذه قصة طويلة (ومثيرة)، إنْ في مجلسها البلدي أو في جمعية المحيط الثقافي التي أسّساها لتمضي في مشروعٍ أعطى، إلى حدٍّ كبير، المدينة مذاقَها الذي يتحسّسه زوّارها والعابرون فيها، ويُعايشه، بداهة، أهلوها. وهذا يقرّ به من يصطفّون في ضفة الخلاف مع بن عيسى وخياراته السياسية. وربما هذا بالضبط ما قد يجعلك، كما تشيكايا أوتامسي، تشتهي أن تكون قطةً لتطلُب لطف الملامسة، وأنت تطوف في مدينةٍ تحتاج هناءة بالٍ ومزاجاً رائقاً لتسعد بأُنسٍ وفيرٍ وأنت تجولُ فيها، وتنظُر في دورٍِها وبيوتها، ولا عمارات عالية هنا، وأنت تنقُل عينيك بين العتيق والجديد، وتسعَدُ بدفءٍ وندىً فيما مطرٌ خفيفٌ وغير خفيفٍ حواليْك. ... ولكن، هل في المقدور أن تقبض على حفنةٍ من هناءة بال وقسطٍ من مزاج رائق، وليس من خبرٍ يسرّ البال تعثُر عليه، في غضون عملك تتسقّط الأخبار وتنشرُها.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.