حوار فلسطيني في إسطنبول
يحسُن، في أول القول، تثمين مبادرة المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج (تأسّس في 2017) إلى تنظيم الدورة الثانية لملتقى الحوار الوطني الفلسطيني، الجمعة والسبت الماضيين. ويحسُن، في قولٍ ثانٍ، تقدير شفافيةٍ سادت النقاشاتِ في الملتقى الذي استُضيف في إسطنبول. وجديرٌ بالإعجاب من منظمّي الملتقى والمشرفين على تفاصيله أنهم نجحوا في أن يكون المجتمعون من حساسياتٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ متنوّعةٍ (إلى حدّ ما)، على أرضيّةٍ مبدئيةٍ في إسناد المقاومة الفلسطينية ومناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني. ومن الداخل الفلسطيني كله، ومن جغرافيات الشتات العديدة، من دول عربية، لا سيما من الأردن ولبنان والخليج، ومن أوروبا، والولايات المتحدة، والبرازيل وتشيلي وكولومبيا. ولئن يصحّ القول إن من العسير ربما أن يأتلف جمعٌ اقترب من نحو مائتي مشاركٍ على منظور واحد، وعلى أسلوب عملٍ موحّد، فإن هذا ليس مطلوباً بالضرورة، فثمّة تحت سقف العنوان الوطني الجامع مساحةٌ لتعايش عدّة أفكارٍ واجتهاداتٍ وتصوّرات. وفي تقديرٍ راجح، ليست المسألةُ في هذا الموضع، وإنما في كلامٍ يحدُث أن ينطرح، تغيبُ عنه الواقعية والعمليّة، فيحلّق في مكابراتٍ وإنشائياتٍ يستسهلانهما أصحابُهما، ويغيب عن أفهامهم أن تنزيلها إلى الواقع دونَه صعوباتٌ جسيمة، عدا عن أكلافه المهولة. وإذا كنّا، في جمْعنا في إسطنبول، قد استمعنا إلى شيءٍ من هذا الكلام الذي أطرب ناسُه أنفسَهم به، إلا أن الكثير مما سعدنا بسماعه اتّصف بمقادير وازنةٍ من الواقعية المسؤولة، ومن الفهم الناضج للظروف المحيطة بالحالة الفلسطينية التي يلزَم التسليم الدائم بأنها عويصة، وليست بالبساطة التي يفترضها بعضُنا في خارج شظاياها المباشرة.
احتشدت قضايا غير قليلة في نقاشات المؤتمِرين، وإذا كان من بديهيّ البديهي أن نصرة المقاومة في غزّة، وتحيّة المجاهدين الصابرين تحت نيران حرب الإبادة الإسرائيلية، تصدّرتا إجماعاً عامّاً في النقاشات الطيّبة التي تنوّعت مداخلها وزوايا النظر فيها، وإذا كان من عاديّ العادي أن يجري الاحتفاء (والانتشاء) بصمود المقاومة وبطولاتها في غزّة، وإذا جاء من طبيعيّ الطبيعي أن الملتقى التفت إلى الحراكات السياسية والشبابية والطلابية والاجتماعية في أوروبا والولايات المتحدة (وغيرهما)، المندّدة بجرائم إسرائيل في حرب الإبادة الجارية، بدا أن المجتمعين كانوا في حاجةٍ إلى مساحة أوسع لنقاش ما أجمعوا عليه (إلى حدٍّ ما ... أيضاً)، وهو افتقاد الحالة الفلسطينية إلى إطارٍ مرجعيٍّ وطنيٍّ جامع. وبلغة أوضح، افتقادُها منظمّة التحرير التي يختطفها نفرٌ معدودٌ على أصابع اليد الواحدة في رام الله، يُشهرون أنهم وحدَهم من يحملون صفة الشرعية. وفيما ألحّ أكثر من متحدّثٍ على وجوب "استرداد" المنظمّة من هؤلاء، لتمثّل الكلّ الفلسطيني ما أمكن، ولتعبّر عن مختلف التنويعات السياسية والاجتماعية في الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، على أرضيةٍ وحدويةٍ وديمقراطيةٍ فاعلةٍ ومتجدّدة، بدا صحيحاً ما أشير إليه عن "زحمة مبادراتٍ" تهدف كلها إلى إصلاح منظمّة التحرير، أو "إعادة بنائها"، وأن ثمّة حاجة إلى أن تتكامل هذه المبادرات، وتتّحد، بروحيّة المضي العملي نحو هدفها، البالغ الوضوح، والشديد الإلحاح. وقد تبدّى في "أجواء" الملتقى أن هذا ممكن، فثمّة شغلٌ طيّبٌ باتجاهه، "وتشبيكاتٌ" يساندها قبولٌ معلن، غير أن الأمور ليست بالبساطة الظاهرة، فالفائضُ من "الديمقراطية" الذي عوين في مقاربات هذه المسألة يُخفي ما يُخفيه من تحفّظاتٍ هنا وتساؤلاتٍ هناك.
وجرياً على دأبهم، أولئك الذين يتطيّرون من أي جمعٍ فلسطيني في أي مكان، فينشطون في محاربته وإذاعة الكلام السائب بشأنه، واصل هؤلاء، وغالبيّتهم من حواشي السلطة الفلسطينية (وآخرون من خصومها)، إشاعة الأوهام التي تفاصحوا بشأنها، عندما صاروا يُخبرون من لا يعلمون بما يعلمون عن "أغراض" المؤتمرين في إسطنبول، وعن "التدبير" الذي يستهدف إقامة منظمّة تحريرٍ بديلةٍ عن المنظمّة الشرعية التي أقطع الله لهم وحدهم تمثيلها. ولئن جاز أن يُقال، هنا، إنه ليس من الحكمة أن ينشغل الواحد منا بثرثراتٍ من هذا الصنف، فإنه يجوز القول الأصحّ إن العمل والإنجاز وحدهما أدْعى أن ينصرف كل الجهد إليهما... وجهدٌ مقدّرٌ، لا ريب، من المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، أنه يسّر فرصة طيّبة لحوار فلسطيني وطني رفيع، وكان المشتهى أن ينعقد في أيٍّ من العواصم العربية... ما لم يكن ممكناً، وهذه من شواهد وفيرة على بؤس الحال العربي.