حنيناً إلى "مستبدٍّ عادل"

13 يوليو 2016
+ الخط -
يبدو بطل رفع الأثقال العراقي، كاظم الجبوري، الذي أجهز بفأسه على تمثال صدام حسين، في ساحة الفردوس، غداة احتلال بغداد، نادماً على فعلته. يتمنى لو لم يقدم على تدمير التمثال، ولو عاد به الزمن لأصبح ممن يمحضون صدام الولاء. يقول في حديثه مع "بي بي سي" إن (تحرير) العراق كان كذبة كبيرة، وإن الأميركيين خدعوه، إذ غزوا العراق واحتلوه، يحن لحقبة صدام: "كان لدينا صدام واحد. اليوم عندنا مئات، كنا ننعم بالأمن، لكننا اليوم نواجه القتل والسرقة والفوضى، كان صلباً كالجدار، لم يكن هناك فساد أو سرقة، كان البلد آمناً نشعر فيه بالأمان".
ليس كاظم وحده في هذا المآل، شريحة كبيرة من العراقيين، ربما هي الأكبر، تحن إلى أيام "الدكتاتور" صدام حسين، لأنها تشعر بافتقار حكامها الجدد إلى سياساتٍ حازمةٍ، توقف انهيار العراق كدولة، وتضمن للناس حياتهم، وتجعلهم يعيشون بأمان.
قطعت مجزرة الكرادة، قبل أيام، الخيط الأخير من علاقة العراقيين بهؤلاء الحكام، وبالعملية السياسية التي شرعنها الأميركيون، وأسقطت ادّعاءات الديمقراطية، والمقولات الزائفة عن سيادة الوطن وحرية المواطن، وكشفت خداع المرجعيات الطائفية، وقد اكتشف كاظم وأضرابه، ولو بعد فوات الأوان، أن الديمقراطية لا تجيء تحت رايات الاحتلال والغزو الأجنبي، ولا على أيدي تجار الطوائف والأفاقين واللصوص، لكنهم يشعرون بالأسى، لأنه لم يعد ثمة ما هو متاح أمامهم لمعالجة الحال الذي هم فيه، سوى أن يُنعم الله عليهم بمستبدٍّ عادل يملك عصا سحريةً لحل مشكلات البلاد التي تفاقمت إلى الحد الذي جعل الناس يحنّون لعصر صدام حسين. هل كانت مجزرة الكرادة ستحدث لو كان صدام موجوداً؟ أكثر من ذلك، لو كان صدام موجوداً، هل كان في استطاعة "داعش" أن يؤسّس دولته على التراب العراقي؟
خطرت مثل هذه الأسئلة وغيرها في أذهان العراقيين، وهم يواجهون، على مدار الساعة، أهوالاً لا قبل لهم بها. من هنا، عاودهم الحنين إلى "مستبد عادل"، يجمع بين الحزم والعزم، ويجعل العراق قوياً ومهاباً، لا يجرؤ أحد على النيل من قوته وكرامته وقدرته على الردع. يقول كلمته، وينام ملء عيونه، من دون أن يبالي إن سهر القوم جرّاها أم اختصموا!
لم يجد عديدون من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي غضاضةً في أن يسقطوا الصورة النمطية عن الدكتاتوريات، ليوجدوا صورة منقحة تناسب حاضرهم. استعار أحدهم نصف مقولة جمال الدين الأفغاني: "البلاد لا تحيا إلا إذا أتاح الله لها رجلاً قوياً عادلاً يحكم بأهله"، وأسقط نصفها الثاني "على غير تفرد بالقوة والسلطان". رد عليه آخر بمقولةٍ أخرى للأفغاني "الأمة الخاضعة لحاكم يحكم كما يشاء، ويفعل ما يريد لا تثبت على حال، ولا ينضبط لها سير". كتب ثالث "الشعوب دائماً تحصل على الحكومات التي تستحقها، سواء كانت حكومات مستبدة أو ديمقراطية، فهي من نتاج تفكير الشعب نفسه". وحدّد آخر مهمات "المستبد" المطلوب عراقياً في "إعلان حالة الطوارئ، وتعطيل الدستور وإلغاء البرلمان، واعتقال كل أفراد الطبقة السياسية الحاكمة وحجز أموالهم وإحالتهم إلى القضاء، وتشكيل وزارةٍ من أربعة أو خمسةٍ، لإدارة شؤون البلاد مدة محدّدة، يتخلى بعدها طوعاً عن الحكم لرئيس وبرلمان منتخب".
لم تعدم هذه الطروحات من يسخر منها، ومن إمكانية تحقيقها. علق أحدهم "هذا يحدث في المشمش"، كناية عن صعوبة حدوثه. علق آخر "كل هذا مطلوب. لكن، من يعلق الجرس؟" تساءل ثالث "من يضمن أنه سيتخلى عن الحكم، بعد أن يكون قد ذاق حلاوة السلطة، وعاش نعيمها، وله في من حكم قبله أسوة سيئة"؟
ظل السؤال الأكبر معلقاً في الهواء: هل انعدمت الخيارات إلى درجة أن يصبح مجيء "مستبد عادل" الخيار الأوحد. وهل لا تستأهل البلاد التي تحمل على أكتافها حضارة أكثر من خمسة آلاف عام. نقول ذلك تعزيةً لأنفسنا، إذ لم تعد الأمجاد الضائعة تعني شيئاً، سوى أحد حالين: الدكتاتورية أو "التدمير الخلاق"؟ أليس ثمة حال ثالث، يمكن أن ينقذ العراق وأهله؟
أعرف أن كلا منا يريد دولة ديمقراطية، دولة قانون، دولة مواطنة متساوية، لكنني أقول، وكلي أسى، إن الخيار الوحيد المطروح أمامنا اليوم هو خيار "المستبد العادل"، فوحده القادر على أن يغير قواعد اللعبة، ولو بالقوة، بديل ذلك، فيما نرى ونسمع، هو الأسوأ والأشد هولاً.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"