09 نوفمبر 2024
روسيا أسقطت حلب أمام أنظار أنقرة
خلافاً لوقائع مشابهة سابقة، في استهداف الحواضر السورية، فإن محنة حلب الراهنة في ديسمبر/ كانون الأول الجاري، لم تثر كبير احتجاجاتٍ في العالم العربي، والعالم بعامة. وهو أمر يستحق التوقف عنده، لاستجلاء الجديد في معادلات القوة وديناميات التعاون بين أطراف مختلفة.
لعل الباعث في التعامل مع هذه الكارثة بوجومٍ فحسب هو الإدراك التام أن معركة حلب كانت معركة روسيا وإيران بالدرجة الأولى. يسعى البلدان معاً (بدعمهما الكامل معاً النظام في دمشق) لتثبيت وجودهما إلى أمد طويل، من خلال السيطرة على حلب، وإزالة نقطة ارتكاز المعارضة السورية في عاصمة الشمال، فيما تنشط طهران على جبهة إعادة الهندسة الاجتماعية والإعلام الديني والتغليب الطائفي وتوزيع مراكز العبادة. وبينما كانت مليشيات إيران اللبنانية والعراقية تحكم الحصار على الأرض، فقد تولّت روسيا، على مدى خمسة أسابيع، قصف حلب الشرقية بكل ما هو متاحٌ في جعبتها من صواريخ، مع استهداف مصادر الحياة من مخابز وما تبقى من مشافٍ، بما في ذلك قصف سيارات الإسعاف الباقية. كانت حلب الشرقية منهكةً، وشبح الجوع والموت يذرع شوارع أحيائها.
وفاقم من ذلك اندلاع مناوشاتٍ بين جبهة فتح الشام وفصائل معارضة أخرى. وقد حانت ساعة الاقتحام، فيما كان الحصار وسد المنافذ قد بلغ ذروته. وعلى مدار الساعة، كانت موسكو الناطقة باسم الفصل الجديد من الحرب المفتوحة على الشعب السوري، وكانت الدبلوماسية الروسية تنشر الأضاليل الممنهجة عن وقف إطلاق نار، وعن مباحثات مكثفةٍ مع تركيا، وعن تأمين المدنيين، مع الانتقال الروسي السلس والسريع من المطالبة بخروج قوات "فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً) إلى المطالبة بخروج كل المسلحين، فيما المندوب الروسي في مجلس الأمن ينشط في منع أي توجهٍ قد يؤدي إلى إنقاذ عشرات الآلاف من العائلات المكلومة.
في غمرة ذلك، بدا أن أحداً لا يريد تصعيداً مع موسكو التي استثمرت الضياع الدولي إلى
أقصى حد، من دون أن تعبأ بأية اعتراضاتٍ أو احتجاجاتٍ من أي نوع، وذلك على الطريقتين، الإسرائيلية والكورية الشمالية، في الاستخفاف الشديد برأي "المجتمع الدولي". وقد نجح تكتيك النظام في تسليم لواء الحرب لموسكو، وإقناع الأخيرة أن استمرار وجود المعارضين الحلبيين في مدينتهم تحدٍ لعظمة روسيا. وبالطبع، لم تقبل روسيا بمثل هذا التحدّي، ولم يمنعها شيء من توجيه صواريخ ارتجاجية، تم توجيهها إلى الأحياء السكنية شبه المتداعية. وقد تناوب الطيران الروسي مع طيران النظام في دكّ أحياء حلب الشرقية منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبات قتل المدنيين، في نظر موسكو، حقاً مكتسباً لها، لترجيح ميزان القوى لمصلحة المليشيات الشيعية والنظام. ودأب وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، على إطلاق إداناتٍ لفظيةٍ قوية ضد جرائم القتل الروسية، مع وعود تخديرية ببحث فرض عقوبات اقتصادية على موسكو مع الشركاء الأوروبيين.
وما أن بدأ انهيار الصمود الملحمي الطويل في قلب حلب، منذ العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، حتى سعى الطرفان، الإيراني والروسي، إلى فرض إرادتهما على المدينة، ومركز القرار فيها، مع إطلاق يد المليشيات الطائفية للتنكيل بالسكان المنكوبين، وسلب ما يروق لهم سلبه. وكان أن عملت موسكو على ترتيباتٍ مع أنقرة لخروج المدنيين، وقد اعترضت مليشيات إيران على ما حدث، "فالقرار لها على الأرض لطهران، وليس لموسكو على ما ذكرت صحف الأربعاء الماضي".
انغماس موسكو في الحرب على حلب والحلبيين، وتصرّفها على أن حلب، شأن اللاذقية وبانياس وطرطوس وتدمر وحميميم، أراض روسية، هو ما أثارا قدراً كبيراً من الوجوم في العواصم المعنية، القريبة منها أو البعيدة، وتسبب بحدوث حالة شللٍ سياسي. مع قناعة الأطراف المعنية أن مواجهة روسيا سياسياً منوطةٌ بالدول الكبرى دائمة العضوية، وليس ببقية الدول. وقد دأبت فرنسا وبريطانيا على توجيه إدانات قوية لموسكو، بجرائم ضد الإنسانية واستخدام يافطة مكافحة الإرهاب لاقتراف هذه الجرائم بدمٍ بارد. وفيما كان الناطقون باسم الأمم المتحدة يتحدّثون عن انهيار كامل للإنسانية في حلب، فقد كان المسؤولون الروس يبدون منتشين بانتصارهم، وكانت مجلة فوربس تصنف فلاديمير بوتين مجدّداً، وللمرة الرابعة، بأنه أقوى رئيس في العالم.
في هذه الأجواء، ساد الصمت السياسي، لا الإعلامي ولا الدبلوماسي، وهو ما كان محل إدانةٍ
من مجلس التعاون الخليجي"الصمت الدولي تجاه المأساة المؤلمة هو عار على المجتمع الدولي، ويجب أن لا يستمر". وفق ما صرّح به أمين المجلس عبد اللطيف الزياني يوم 13 ديسمبر. وهو موقفٌ مبدئيٌّ صائبٌ، غير أن أحداً في "المجتمع الدولي" لا يشعر أنه مقصود بهذه الإدانة، أو الدعوة إلى التحرك. ومن المثير للاهتمام أنه بينما تتواصل حرب الإبادة، وتقويض ما تبقى من مظاهر الحياة بمشاركة حربية روسية نشطة، تظل موسكو تسعى إلى نشر انطباعاتٍ ورديةٍ لحجب مماسارتها المشينة في هذا البلد، ومن ذلك الإيماءات المتكرّرة حول إعادة الإعمار في سورية، ودعوة الآخرين إلى المساهمة فيها، مع ما يحمل ذلك من إيحاءات بأن الحرب انتهت، أو هي على وشك الانتهاء، وأن شيئاً لم يتغير عمّا كان عليه في مارس/ آذار 2011، مع محاولة تدفيع الآخرين ثمن الجنون الحربي المستدام في تقويض سائر مظاهر الحياة والعمران بصواريخ وطائرات روسية، استخدمها النظام أو القوات الروسية.
الاندفاعة الروسية غير المسبوقة، والمشفوعة بضماناتٍ لأمن الاحتلال الإسرائيلي، والتحالف القوي مع إيران، وإلى إشعار آخر، أظهرت للأطراف التي اتخذت موقع المراقبة، أن حرباً إقليمية قد جرت، وأن أصدقاء النظام يخوضون بأنفسهم حربه، بعد أن اتحدت المصالح معه، بينما يكتفي أصدقاء الشعب السوري بقدر من الدعم عن بُعد، وليس أكثر من ذلك، فيما تستمرئ موسكو لعبة الابتزاز، وتدّعي أن أي دعم جديد للمعارضة السورية المنهكة هو تحدٍ لها! وبما أن أحداً لا يريد توتراً مع الدب الجامح الفالت من كل عقال، فقد التزم الجميع الصمت، ومُنيت الجارة تركيا بفشلٍ كبير في إنقاذ حلب، لأن موسكو، في تعاملها مع أنقرة، حاولت، وستظل تحاول، كسب الوقت لإلحاق مزيد من الضعف بالمعارضة، بينما تراعي موسكو الشريك الإيراني في بسط النفوذ والسيطرة، وهو ما يؤدي إلى الإخلال بالاتفاقات مع أنقرة. وقد أدى الإخفاق التركي غير المتوقع إلى انكماش الاعتراض الإقليمي على مجريات المعركة التي بدت بلا أفق. وتسعى موسكو وطهران، حالياً، لجولةٍ جديدةٍ يتم فيها الاستفراد بالمعارضة في إدلب (60 كيلومتراً عن حلب) مع الاستفراد السياسي بأنقرة، ومحاولة مساومتها على فكّ ارتباطها بقضية الشعب السوري، مقابل ما سيتضح في اجتماعٍ ثلاثيٍّ مُقرّرٍ في موسكو يوم 27 ديسمبر الجاري، وحريٌّ بأنقرة طلب مشاركة السعودية على الأقل إلى جانبها في الاجتماع، مقابل وجود ممثلي روسيا وإيران.
لعل الباعث في التعامل مع هذه الكارثة بوجومٍ فحسب هو الإدراك التام أن معركة حلب كانت معركة روسيا وإيران بالدرجة الأولى. يسعى البلدان معاً (بدعمهما الكامل معاً النظام في دمشق) لتثبيت وجودهما إلى أمد طويل، من خلال السيطرة على حلب، وإزالة نقطة ارتكاز المعارضة السورية في عاصمة الشمال، فيما تنشط طهران على جبهة إعادة الهندسة الاجتماعية والإعلام الديني والتغليب الطائفي وتوزيع مراكز العبادة. وبينما كانت مليشيات إيران اللبنانية والعراقية تحكم الحصار على الأرض، فقد تولّت روسيا، على مدى خمسة أسابيع، قصف حلب الشرقية بكل ما هو متاحٌ في جعبتها من صواريخ، مع استهداف مصادر الحياة من مخابز وما تبقى من مشافٍ، بما في ذلك قصف سيارات الإسعاف الباقية. كانت حلب الشرقية منهكةً، وشبح الجوع والموت يذرع شوارع أحيائها.
وفاقم من ذلك اندلاع مناوشاتٍ بين جبهة فتح الشام وفصائل معارضة أخرى. وقد حانت ساعة الاقتحام، فيما كان الحصار وسد المنافذ قد بلغ ذروته. وعلى مدار الساعة، كانت موسكو الناطقة باسم الفصل الجديد من الحرب المفتوحة على الشعب السوري، وكانت الدبلوماسية الروسية تنشر الأضاليل الممنهجة عن وقف إطلاق نار، وعن مباحثات مكثفةٍ مع تركيا، وعن تأمين المدنيين، مع الانتقال الروسي السلس والسريع من المطالبة بخروج قوات "فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً) إلى المطالبة بخروج كل المسلحين، فيما المندوب الروسي في مجلس الأمن ينشط في منع أي توجهٍ قد يؤدي إلى إنقاذ عشرات الآلاف من العائلات المكلومة.
في غمرة ذلك، بدا أن أحداً لا يريد تصعيداً مع موسكو التي استثمرت الضياع الدولي إلى
وما أن بدأ انهيار الصمود الملحمي الطويل في قلب حلب، منذ العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، حتى سعى الطرفان، الإيراني والروسي، إلى فرض إرادتهما على المدينة، ومركز القرار فيها، مع إطلاق يد المليشيات الطائفية للتنكيل بالسكان المنكوبين، وسلب ما يروق لهم سلبه. وكان أن عملت موسكو على ترتيباتٍ مع أنقرة لخروج المدنيين، وقد اعترضت مليشيات إيران على ما حدث، "فالقرار لها على الأرض لطهران، وليس لموسكو على ما ذكرت صحف الأربعاء الماضي".
انغماس موسكو في الحرب على حلب والحلبيين، وتصرّفها على أن حلب، شأن اللاذقية وبانياس وطرطوس وتدمر وحميميم، أراض روسية، هو ما أثارا قدراً كبيراً من الوجوم في العواصم المعنية، القريبة منها أو البعيدة، وتسبب بحدوث حالة شللٍ سياسي. مع قناعة الأطراف المعنية أن مواجهة روسيا سياسياً منوطةٌ بالدول الكبرى دائمة العضوية، وليس ببقية الدول. وقد دأبت فرنسا وبريطانيا على توجيه إدانات قوية لموسكو، بجرائم ضد الإنسانية واستخدام يافطة مكافحة الإرهاب لاقتراف هذه الجرائم بدمٍ بارد. وفيما كان الناطقون باسم الأمم المتحدة يتحدّثون عن انهيار كامل للإنسانية في حلب، فقد كان المسؤولون الروس يبدون منتشين بانتصارهم، وكانت مجلة فوربس تصنف فلاديمير بوتين مجدّداً، وللمرة الرابعة، بأنه أقوى رئيس في العالم.
في هذه الأجواء، ساد الصمت السياسي، لا الإعلامي ولا الدبلوماسي، وهو ما كان محل إدانةٍ
الاندفاعة الروسية غير المسبوقة، والمشفوعة بضماناتٍ لأمن الاحتلال الإسرائيلي، والتحالف القوي مع إيران، وإلى إشعار آخر، أظهرت للأطراف التي اتخذت موقع المراقبة، أن حرباً إقليمية قد جرت، وأن أصدقاء النظام يخوضون بأنفسهم حربه، بعد أن اتحدت المصالح معه، بينما يكتفي أصدقاء الشعب السوري بقدر من الدعم عن بُعد، وليس أكثر من ذلك، فيما تستمرئ موسكو لعبة الابتزاز، وتدّعي أن أي دعم جديد للمعارضة السورية المنهكة هو تحدٍ لها! وبما أن أحداً لا يريد توتراً مع الدب الجامح الفالت من كل عقال، فقد التزم الجميع الصمت، ومُنيت الجارة تركيا بفشلٍ كبير في إنقاذ حلب، لأن موسكو، في تعاملها مع أنقرة، حاولت، وستظل تحاول، كسب الوقت لإلحاق مزيد من الضعف بالمعارضة، بينما تراعي موسكو الشريك الإيراني في بسط النفوذ والسيطرة، وهو ما يؤدي إلى الإخلال بالاتفاقات مع أنقرة. وقد أدى الإخفاق التركي غير المتوقع إلى انكماش الاعتراض الإقليمي على مجريات المعركة التي بدت بلا أفق. وتسعى موسكو وطهران، حالياً، لجولةٍ جديدةٍ يتم فيها الاستفراد بالمعارضة في إدلب (60 كيلومتراً عن حلب) مع الاستفراد السياسي بأنقرة، ومحاولة مساومتها على فكّ ارتباطها بقضية الشعب السوري، مقابل ما سيتضح في اجتماعٍ ثلاثيٍّ مُقرّرٍ في موسكو يوم 27 ديسمبر الجاري، وحريٌّ بأنقرة طلب مشاركة السعودية على الأقل إلى جانبها في الاجتماع، مقابل وجود ممثلي روسيا وإيران.