هل يغرق بوتين في الأوحال السورية؟

12 أكتوبر 2015
+ الخط -
تهدر المقاتلات الروسية في سماء سورية، شمالاً وغرباً، وتخترق الحدود مع تركيا، لترمي قنابلها على ما تقول القيادة الروسية إنها مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فيما تؤكد تركيا والولايات المتحدة أن عشر الغارات فقط من أصل نحو مائة استهدفت فعلاً مواقع التنظيم الإرهابي. لماذا أرسل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مقاتلاته إلى سورية، وهل سيتبعها بمغامرة إرسال قوات برية؟ 

يؤكد بشار الأسد جازماً أن الروس أتوا لمساندته بناء على طلبه، وقد أصبحت سلطته على حافة الانهيار، وبات يسيطر فقط على 20% من الأراضي السورية، على الرغم من البطولات المتخيلة التي يتحدث عنها حزب الله الذي يعد نفسه باستعادة زمام المبادرة والتحضير لهجوم بري بغطاء جوي روسي على الخط الساحلي من دمشق، باتجاه حمص واللاذقية (وفي الطريق معركة الزبداني المعلقة منذ أشهر). أما إيران عرّابة بشار التي تعتبر جنرالها الفاشل في العراق وفي سورية، قاسم سليماني، صاحب الفضل في إقناع بوتين بالتدخل. فهي تفاخر بأنها أعادت التوازن إلى الجبهة، وعوّضت عن عدم قدرتها على التدخل المباشر والمكشوف لأسباب واعتبارات عديدة ومختلفة، جيوسياسية ولوجيستية ومذهبية وغيرها. ناهيك عمن يعتبر أنه نجح في استدراج "الدب الروسي" إلى المنطقة ليعينه على حل مشكلاته، ويريده أن يتدخل أيضا في العراق، من أجل إيجاد توازن استراتيجي مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ولكن، هل يعرف بوتين نفسه فعلاً ماذا جاء يفعل، وماذا سيواجه، وما هو الثمن المحتمل الذي يمكن أن يدفعه، وهو الوارث للإمبراطورية السوفييتية المنهارة؟
لا شك، أولاً، أن رؤية "الحصان" الذي راهنت عليه روسيا منذ بداية شرارة الثورة السورية، لكي تتمكن من لعب أوراقها والحفاظ على دور لها في المنطقة (أنظر ما حصل لها في ليبيا)، ينهار على الرغم من الدعم السياسي والعسكري الذي قدمته له. فالأسد ليس سوى "حجر" في لعبة الشطرنج ضمن الصراع على رقعة النفوذ بين الدول الكبرى، وكذلك بالنسبة لإيران الساعية إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، وتثبيت موطئ قدم لها في المنطقة العربية، وعلى ساحل المتوسط عبر البوابة السورية. وثانياً، تعاني روسيا، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، من خطر نمو التطرف الأصولي وتوسعه من حولها، تحديداً في الشيشان، وفي محاكاته المسلمين لديها.
وثالثاً، بوتين هو فعلا وريث الإمبراطورية السوفييتية التي جاء إلى السلطة من رحمها، والذي ما زال يشده الحنين إلى ذلك الزمن، وإلى عظمة السلطة القوية والتوسعية؛ وهو الذي نشأ وترعرع في حضن جهاز الاستخبارات السوفييتية (كي.جي.بي). وهذا النزوع تجسده الأزمة الأوكرانية مثالاً حياً، يجمعه، بطبيعة الحال، مع نموذج الأسد، سلطة قمعية وعقلية هيمنة ووصاية تجاه لبنان وفلسطين والمحيط. ولا بد من القول هنا إن واشنطن والحلف الأطلسي لم يوفرا منذ العام 2000 أي ضغط على موسكو، ولا أي محاولة لمحاصرتها في دول المحيط، منها جمهوريات كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. ما دفع بوتين إلى العودة إلى أجواء الحرب الباردة، طمعاً بإحياء أمجاد غابرة.

كما أن اللافت هو عملية ترويجٍ "قيصر جديد"، رافقت التدخل الروسي المفاجئ، وانطلقت قبل أن تحط المقاتلات على الأرض السورية، في حملة تعبئة وتجييش في روسيا. وقد وصل التمجيد بشخصية بوتين الفذة وشجاعته "بطلاً قومياً" في الدفاع عن مصالح روسيا العظمى، إلى درجة وضع في التداول هاتف خليوي أطلق عليه تسمية "بوتين إيفون"، وثبّت في خلفيته رأس مذهب للرئيس الروسي. وها هي الكنيسة الأرثوذكسية تهب لنجدة سيد الكرملين، بإعلانها الوقوف إلى جانب التدخل بما هو "حق مقدس للدفاع عن الأقليات المسيحية في الشرق"، في خطوة استفزازية لمشاعر المسلمين السنة. إلا أن الوقائع التي رافقت الحملة العسكرية تظهر أن الإرباك هو سيد الموقف، على الرغم من البيانات والتصريحات اليومية التي تعدد عشرات الغارات التي تصيب أهدافها (غير الواضحة!) والبطولات التي تحققها، تماماً كما تعلن الولايات المتحدة ودول التحالف الغربي عن غاراتها، هي الأخرى، ضد تنظيم داعش. غارات كانت موسكو وطهران بالأمس تعتبرانها غير فعالة، ولن تقضي على الإرهابيين. ولماذا تركيز القصف إذاً على إدلب وحمص اللتين يسيطر عليهما "الجيش السوري الحر"، أو المعارضة المعتدلة كما يحلو لبعضهم تسميتها؟
يقول مسؤول روسي إن "الهدف من التدخل منع الإرهابيين من دخول دمشق والاستيلاء على السلطة، والدفع باتجاه قيام حوار بين الأسد والمعارضة غير المسلحة". أي المعارضة التي اخترعها النظام السوري، وتجلس معه في الحكومة، ويدور بعضها في فلك موسكو؟ ثم تستدرك القيادة في اليوم الثاني، معلنة استعداد موسكو للحوار مع "الجيش السوري الحر" المسلح، ولتؤكد أنه لا خلاف مع واشنطن حول عملية الانتقال السياسي للسلطة، وأنها على تنسيق مع الولايات المتحدة، وحتى مع تركيا التي تستفزها، في الوقت عينه، بخروق لمجالها الجوي. وفي المقابل، تطمئن إسرائيل بأن حرية الطيران ستبقى متاحة لها فوق الأجواء السورية (وهذا ما فعلته تل أبيب بعد يومين على التدخل)، وأن القنيطرة لن تكون مسرحاً لحزب الله المحتفي بالحملة الروسية. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد أكد لبوتين أن "لا مشكلة لنا مع الأسد"، بعد أن اطلع بدون شك على ما كرره الأخير أن "المعركة الآن هي مع الإرهاب، وليست مع إسرائيل".
فهل يسعى سيد الكرملين إلى فرض حل سياسي بالقوة عبر التدخل العسكري؟ انطلاقاً من موقف روسيا والنهج الذي سلكته في تعاطيها مع الثورة السورية، منذ اندلاعها في 15 مارس/آذار 2011، ووقوفها إلى جانب النظام، ثم دعوتها إلى تغليب حل سياسي، لا يستثني مسبقاً دوراً للأسد فيه، يصبح من المنطقي افتراض أن موسكو قررت التدخل العسكري لتعويم "ورقة الأسد" المنهارة، لتتمكن عبرها من فرض هذا الحل، وإجبار بشار على قبوله. ويجدر، في هذا السياق، لفت الانتباه الى ما صرح به الأسد نفسه لقناة الخبر الإيرانية، قبل أيام، وعبّر فيه عن استعداده للتنحي "إذا كان هذا سيساهم في حل سياسي بين السوريين".
فهل سيستعمل بوتين الأشهر الأربعة التي أعطاها لنفسه من أجل فرض تسوية سياسيةٍ، تم التفاهم عليها مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وعلى أساسها حصل على الضوء الأخضر للتدخل؟ أم فضلت واشنطن اتخاذ موقف المتفرج، وتركته يتورّط في مغامرة عسكرية سوف تغرقه في الأوحال السورية، مثلما غرق الاتحاد السوفييتي السابق في أوحال أفغانستان.

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.