لبنان بين الحدود الجغرافية والحدود الفردية

13 يوليو 2022
+ الخط -

شكّل هروب رئيس سريلانكا من القصر الجمهوري الذي اقتحمه المتظاهرون صدمة للبنانيين الذين يتباهون بأنهم قاموا بثورة عمّت الفئات والمناطق والساحات كافة، فيما رئيس جمهوريتهم ما زال في قصره، وهناك تخوف من أنه لن يغادره حتى عند انتهاء ولايته بعد مائة يوم. كما أن الطبقة السياسية التي انتفضوا ضد فسادها وارتهانها ونهبها البلد قد تمكّنت عمليا من التجديد لنفسها في الانتخابات التي جرت قبل شهرين، ولم يتمكّن سوى 13 نائبا جديدا يمثلون الانتفاضة من دخول البرلمان من أصل 128 نائبا. وكانت ردّة الفعل الأولى شبه العفوية عند كثيرين: هل يمكن للبنانيين أن ينظروا بعد اليوم إلى الرعايا السريلانكيين الذين يعملون بالآلاف في المنازل بنظرة دونية؟

هذا حال الناس والشارع. أما السلطة الجالسة سعيدة، فهي تستمرّ بممارسة لعبتها في الصراع على تناتش النفوذ والأدوار من خلال الكباش بشأن تشكيل الحكومة والعرض المسرحي الذي يتكرّر كل مرة، ويدوم أشهرا وأشهرا بشأن المواقع والحصص إلى حد القطيعة بين أطرافها، كما هو حاصل حاليا، إذ لا تواصل بين رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي، الذي سلم تشكيلته، والرئيس ميشال عون الذي يرفضها... إلا أن الطرفين، ومعهما كل الفريق الممانع والداعم، بدءا من حزب الله، يمارس البهورة، ويدّعي الحرص على عدم التفريط بحقوق لبنان وثرواته النفطية، ويريد فرض شروطه على إسرائيل في عملية ترسيم حدوده البحرية، فيما هم غير متفقين في ما بينهم على خطوط هذه الحدود، وعلى حقول التنقيب المتنازع عليها. ويُراهن فريق عون على الوساطة الأميركية مسنودا من رئيس الحكومة، فيما يشتم حزب الله الوسيط الأميركي، ويتهمه بأنه غير نزيه ومنحاز للعدو، ويعلن، في الوقت نفسه، أنه يقف وراء الحكومة في أي قرار تتخذه، ثم يرسل مسيّرات استكشافية للتحليق فوق العائمة الإسرائيلية الجاهزة للبدء باستخراج النفط، وتسقطها إسرائيل، فيما يفاجئ رئيس الحكومة ووزير الخارجية حزب الله بانتقاد الخطوة واعتبارها "خارج إطار مسؤولية الدولة والمسار الدبلوماسي".

وهذه أول مرة تتجرّأ فيها الحكومة التي يمسك حزب الله بقرارها على التعبير عن اعتراضها على ما يقوم به الحزب، وما يعتبر أنها ساحته، وأنه مطلق الحرية والصلاحية في التحرّك فيها كما يشاء! ومع ذلك، يستمر المسلسل باكتفاء حزب الله باستعراضه وعدم الرد، على وقع التقارب الإيراني - السعودي، والكلام عن إمكانية إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والأهم زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة، وحاجة إسرائيل التي بعثت رسائل طمأنة، عبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أنها لا تريد المواجهة، ولا تسعى إلى التصعيد مع لبنان، لأنها تقدّم مصالحها الاقتصادية الآن على أي أمر آخر، بعدما أنهت عملية التنقيب، وأصبحت جاهزة لاستخراج النفط والغاز، والبدء بالتصدير، بعدما وقّعت، أخيرا، اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي لتزويده بالغاز من أجل التعويض عن النقص الذي أصاب أوروبا جرّاء العقوبات التي فرضتها على روسيا نتيجة حربها على أوكرانيا.

بين ترسيم الحدود الجغرافية والحفاظ على الحدود الاجتماعية التقليدية والموروثة التي تحدّ من حرية الفرد، يجمع النفاق أفرقاء الطبقة السياسية

أما لبنان فما زال قاصرا عن استغلال ثروته التي لم يبدأ بعد حتى التنقيب عنها، للتأكد أولا من وجودها. وهو يحتاج، في حال بدأ التنقيب اليوم، أقله سبع سنوات أو ثماني، لكي يباشر الاستثمار في هذا القطاع كما فعلت إسرائيل، وهو، على الأرجح، سيبقى غارقا في أزمته العميقة، لأن حكّامه بدأوا يخطّطون في كيفية تقاسم مغانم ثروة النفط والغاز، قبل أن يصبح الذهب الأسود حقيقة واقعة، وربما يتم نهبه قبل أن يبدأ بالتدفق. فهذا قطاع الاتصالات الذي كان لبنان السبّاق في منطقة الشرق الأوسط في ولوجه منذ نحو ثلاثين سنة، والذي أطلقت عليه تسمية "نفط لبنان" نسبة لمليارات الدولارات التي كان يدرّها على خزينة الدولة بات من أسوأ القطاعات خدمةً، وهو الآن مهدّد بالانهيار، نتيجة النهب وتقاسم المغانم التي تعرّض لها من الطبقة السياسية والوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الاتصالات. أما التظاهر بالتوافق وإظهار وحدة في الموقف تجاه العداء والغطرسة الإسرائيليين، فما هو إلا شمّاعة يعلق عليها الفريق الحاكم، ويتلطّى وراءها ليغطي على أفعاله ويبرّر موبقاته وجشعه وإحكام قبضته على السلطة التي باتت عصيةً على أي أمل بالتغيير، نتيجة هذا الأخطبوط المافيوي الذي يشبك أطرافها بعضها ببعض، وعبر شبكة علاقات ومعادلات تختصرها معادلة "السلاح مقابل الفساد"! ومسألة ترسيم الحدود واحدة منها، لا أكثر ولا أقل، وإلا كيف يمكن تصديق كذبة أن ترسيم الحدود مع إسرائيل ليس اعترافا بها، وأنه يعتبر حتى رفضا للتطبيع معها على اعتبار أن المفاوضات تجري بشكل غير مباشر؟! أم أنهم يظنون، كما يحاول حزب الله وأتباعه الإيحاء أن مجرّد استعمال تسمية "فلسطين المحتلة" بدل "إسرائيل" في التصريحات والبيانات والإعلام التابع لهم يعطي صكّ براءة لهؤلاء ويدغدغ عواطف جمهورهم! وإلا لماذا لا تطرح مسألة ترسيم الحدود مع سورية؟ حدود سائبة يستنزف التهريب عبرها على أنواعه، لحساب حزب الله والنظام السوري وأدواتهما وعملائهما، مليارات الدولارات من الخزينة اللبنانية، فهل هناك من دولة عربية واحدة لم ترسّم حدودها مع جيرانها؟

 الناس أسرى سطوة السلاح والشعارات البرّاقة، وتستمر الأغلبية في منح ولائها لجلاديها ومستغليها

إنهم متّفقون عمليا على كل شيء تقريبا ويتظاهرون في الاختلاف على أمور عديدة! تماما كما يحصل على مسار آخر لا يقل أهمية من حيث القدرة على إبقاء سيطرتهم على التركيبة الاجتماعية والعلاقات والحفاظ على الموروثات، وعلى حركة حرية الأفراد وخياراتهم الشخصية، وإنما بالتكافل والتضامن مع رؤساء الطوائف والسلطات الدينية والهيئات الروحية، فقد سارعت السلطات الدينية إلى خوض معركة دونكيشوتية عبر شنّ حملة على ظاهرة ما تعرف بالمثلية الجنسية، محذّرة من أنها تشكّل خطرا على المجتمع وتفسّخه، وتهدّد بتفكك العائلة، ومنها للولوج إلى التحذير من مسألة الزواج المدني، في محاولة منها لقطع الطريق مسبقا على مجموعة النواب الجدد الذين حملتهم "ثورة 17 أكتوبر" إلى البرلمان، والذين يعتزمون إثارة المسألة ضمن برنامجهم لإعادة صياغة قانون جديد للأحوال الشخصية. قامت القيامة ولم تقعد، وراح الخطباء يتبارون في المساجد وعلى المنابر، إلى درجة أن مفتي الجمهورية أعلن، من دار الفتوى، الحرب على "آفة المثلية" وكأنها جيش جرّار زاحف يهدد المنازل والأرواح! وحده بطريرك الموارنة أحجم عن الانضمام الى الحملة، ربما نتيجة الموقف الذي كان قد أعلنه البابا فرنسيس أن "الكنيسة لا تشجّع على مثل هذه الظواهر، ولكنها تحترم الحرية الشخصية للأفراد". فيما لاذ السياسيون بالصمت، حتى بعض من الذين يعلنون أنهم مع العلمانية والفصل بين الدين والدولة ومسألة الزواج المدني الاختياري، فيما تبرّع وزير الداخلية الطامح إلى رئاسة الحكومة لمنع وملاحقة أي تجمع أو تحرّك للمثليين (؟!) وكأنهم حزب سياسي محظور. وتبع ذلك منع سلطات الأمن العام قبل أيام، وبشكل مفاجئ، عرض أفلام تعود في معظمها للأطفال بحجج أنها تتعرض لمقامات دينية من نوع تصوير راهبة في أحد هذه الأفلام بشكل مضحك أو تظهر شيخا بشكل كاريكاتوري... وطبعا لم يحرّك أحد من السياسيين ساكنا! في المقابل، انفجرت فضيحة أخلاقية إنسانية فظيعة، بطلها رجل خمسيني، كان يواظب على اغتصاب أطفال ومراهقين في بلدته، بعد أن كان يواكبهم إلى منزله، ويضع لهم مخدّرا في العصائر التي يقدّمها لهم. ولم يجرؤ أحد منهم على البوح بذلك، إلا عندما استفاق أحدهم ووجد نفسه وحيدا عاريا في منزل مغتصبه، ففرّ هاربا إلى أهله. وقد هزّت الفضيحة الرأي العام اللبناني، وضجّت بها وسائل الإعلام، وتعالت الأصوات المطالبة بمعاقبة هذا "الوحش البشري"، وإنزال حكم الإعدام به، غير أن السلطات الدينية لاذت بالصمت، وكذلك القوى السياسية، ليتبين لاحقا أن هذا الرجل ينتمي إلى حزب سياسي من أركان السلطة الأساسيين. وهو قيد التوقيف، ولكن رداء من الصمت والتعتيم يلفّ التحقيق ويخيم على الجريمة.

وهكذا، بين ترسيم الحدود الجغرافية والحفاظ على الحدود الاجتماعية التقليدية والموروثة التي تحدّ من حرية الفرد، يجمع النفاق أفرقاء الطبقة السياسية، ويلتقي أركانها في التواطؤ والتضامن الزائف مع السلطات الدينية، حفاظا على مصالح الجميع، فيما يبقى الناس أسرى سطوة السلاح والشعارات البرّاقة، وتستمر الأغلبية في منح ولائها لجلاديها ومستغليها!

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.