القصيدة والجمهور.. والمستقبل
يواجهني هذا السؤال الصحافي بصيغ مختلفة: أين تكمن، برأيك، أزمات النص الشعري العربي الراهن. هناك مَن يقول إنه لم يستطع تجاوز الأفقين، الأدونيسي والدرويشي؟
والإشارة إلى محمود درويش وأدونيس، هنا، رمزية اعتبارية، باعتبارهما أبرز صوتين في راهن القصيدة العربية في نصف القرن الأخير. ولا يتعلق حكم البروز، هنا، بالقيمة الفنية وحدها، بل تتشابك معه قيم شعرية وثقافية، وربما اجتماعية أخرى، تتكئ كلها على ما حققه هذان الشاعران من "نجومية"، في سياق القصيدة العربية المعاصرة بين متلقي الشعر، وجماهيرية.
أما إجابتي فتكاد تكون واحدة دائماً، ومنذ عدة سنوات، وخصوصاً أن لا جديد يذكر تحت شمس القصيدة العربية. تجاهد الشعرية العربية الراهنة، وبطريقة عملية، في سبيل تحققها. ولعلّ في الإنتاج النصي لشعراء كبار معاصرين دلالة واضحة على ما تقوم به هذه الشعرية من جهاد حقيقي، في سبيل التحقق والوصول إلى سدرة المنتهى. وأنظر، الآن، لنتاجات متميّزة لهؤلاء الشعراء المتحققين أصلاً، وقدرتهم الفائقة على الاستمرار، وأنظر، أيضاً، إلى شعراء آخرين ما زالوا غير متحققين، لكنهم منشغلون دائماً بما يحققهم ويقدم قصيدتهم إلى الجمهور. أي أنهم يبحثون عن حلقة جديدة، يمكن أن تكون حلقة الوصل بين قصيدتهم والجمهور المعاصر.
وأعتقد أن الإشكالية المترتبة على العلاقة الشائكة الحالية بين القصيدة المعاصرة والجمهور المعاصر هي التي تؤرق الشاعر، وتنفّر المتلقي، وتخلق الفراغ بينهما.
وما أريد أن أصل إليه أنه ليس مهمّاً، بالفعل، حجم الجمهور المتلقي لما يكتبه شاعر، بحجم محمود درويش، مثلما ليس مهماً، بالفعل، حجم الجمهور المتواصل مع ما يكتبه شاعر بحجم أدونيس مثلاً... ولكن، المهم، بالفعل، هو النص الشعري لهذين الشاعرين أو غيرهما.
ثم إن عدم وجود تيار مسيطر على الشعرية العربية الحديثة، مثلاً، لا يعني امّحاء هذه الشعرية بقدر ما يعني تمرد الجزء الأكبر من القصيدة العربية الحديثة على أي تيار أو اتجاه معيّن، على الرغم من كثرة وفاعلية هذه التيارات كل على حده. وبين هذا وذاك، نستطيع استخلاص ملامح شعرية جديدة، تهيئ نفسها لكي تكون هي العنصر الأبرز في هذا المشهد، عبر تخليها، مثلاً، عن التطرف اللغوي أو الموسيقي، أو عن كليهما، لصالح الصورة المشهدية، أو التشكيل الشعري الذي يستغرق القصيدة كلها. وبتفاؤلٍ، أرى أن المشهد الشعري الراهن من أكثر المشاهد العربية المعاصرة اكتمالاً، وأقلها انهزامية، أو هرولة، نحو التحقق المستعار البعيد عن العفوية، والخاضع للشروط المختبرية المحددة.
ولعلّنا نشير، هنا، إلى ما يثيره متشائمون في نظرتهم لمستقبل القصيدة العربية، وهم يرونها بعيدة عن الجماهيرية الشكلية، ويرون الاندفاع الجماهيري تجاه أشكال كتابية أخرى، في مقدمتها الرواية. وهذا، من وجهة نظري، لصالح القصيدة فعلاً، فلأول مرة ربما في التاريخ الأدبي العربي، تتخلّص القصيدة من كل ما كان يثقل كاهلها اعتبارياً من أعباء وظيفية، ساهمت في تكوين نظرة عامة للقصيدة وللشاعر، باعتبارهما الصوت الأبلغ للقبيلة، بغضّ النظر عن تعريفنا هذه القبيلة، في تحولاتها من جماعة إلى دولة أو حتى أمة واحدة بثقافة واحدة وموحّدة. لم تعد القصيدة تمثّل أحداً سوى شاعرها، ولم يعد مطلوباً من الشاعر أن يمثّل صوت قبيلته، أو وطنه، أو أمته، فهو لا يمثل سوى نفسه، إن كان يستطيع تمثيلاً فعلاً والتعبير عنها بشكل كامل. ذلك أن الشاعر يبقى، دائماً، في محاولة مستمرة للتعبير عن نفسه، وعن خلجاتها، وكل قصيدة جديدة خطوة على هذا الطريق الوعر، وهذا ما يجعل من تفاؤلي تجاه مستقبل القصيدة العربية واقعاً حقيقياً، فكلما واجه الشاعر العربي هذا النوع من الصعوبات الذاتية في التعبير عن نفسه هو، أولاً، ارتقت شعريته إلى الأعلى.. كما يليق بالقصيدة الحيّة.