من أجل مصر وحقوق الإنسان

03 مايو 2014

محتجّون على أحكام إعدام 28 أبريل 2014 (Getty)

+ الخط -

ليست أحكام الإعدام مجرد حكم بين أحكام قضائية، يمُرُّ المرء عليها بين راض أو مندهش أو ممتعض، ثم يمضي لمتابعة باقي الأخبار والتطورات، ولسان حاله يردد أن ما هو للقضاء فهو للقضاء، وما هو سياسي فللسياسة. معظم دول العالم تراجع عن إصدار قرارات الإعدام في القضايا الجنائية، فما بالك بالسياسية، والحديث هنا عن مصر، لا عن كوريا الشمالية.
تميزت ثورة 25 يناير المصرية، بين ما تميزت به، بسلميتها التي أثارت الإعجاب، والدعوات المحدودة لمحتجين، آنذاك، إلى إعدام رموز النظام السابق، لم تعكّر الأجواء السلمية، ولا أثّرت على القضاء، لا في فترة حكم المجلس العسكري ولا في عام محمد مرسي. كانت هناك أخطاء، بعضها جسيم، لكن، ليس بينها استسهال إحالة أوراق متهمين إلى المفتي. كان الأمل معقوداً على أن تواصل مصر طريق الحياة السياسية السلمية، بعدما ترسخت هذه السلمية تقليداً سياسياً مصرياً، وإن خالطه استبداد وعسف.
عهود الحكم السابقة، من جمال عبد الناصر إلى أنور السادات وحسني مبارك، تميزت بالضآلة الشديدة في عدد أحكام الإعدام. ذلك ما نأى بالدولة المصرية في ستين عاماً عن التسلط الجماعي والدموي، على غير ما حدث في العراق وسورية في تلك الفترة. وأن يُقال، الآن، إن الوضع تغير والتحديات اختلفت، لا يبدد المحاذير، بل يزيدها. فالتصفية السياسية بسلب الحق بالحياة يؤسس توتراتٍ بعيدة المدى، ويوفر بيئة مواتية للعنف السياسي.
منذ إزاحة مرسي، لم تنجح السلطة الجديدة في الفصل بين ما هو سياسي من حقوق التعبير والوجود الحزبي وما هو عنف وإرهاب. فقد كان رائدها، وما زال، استئصال الظاهرة الإسلامية التي تعبّر عنها أقدم جماعات الإسلام السياسي، الإخوان المسلمين. بقليلٍ من الحنكة، كان يمكن تجميد جماعة الإخوان مباشرتها السياسة، خلافاً لترخيصها، وعدم المساس بحزب الحرية والعدالة الذي يتمتع بترخيص قانوني. كما كان يمكن الفصل ما بين ارتكابات العنف والانتماء الحزبي. لا نعطي، هنا، وصفاتٍ لقمع مُلطّف، بل ندعو إلى احترام مقتضيات القانون والسياسة معاً، بما يحافظ على تقاليد الحياة السياسية السلمية، ويسمح بمنازعات سياسية تحت سقف الدولة والقضاء.


باستثناء دول قليلة، كإيران وروسيا والصين، فإن سائر دول العالم استهولت إصدار أحكام إعدامٍ بالجملة على سياسيين وحزبيين، ينتمون للعهد السابق. وليس بين تلك الدول في الشرق والغرب من تتعاطف سياسياً، أو عقائدياً، مع جماعة الإخوان. علاوة على ما اعتور ذلك من غلوٍّ شديدٍ، في حالاتٍ عديدة، كشمول أحكام الموت خمسة أشقاء! فالضحية هنا ليس "الإخوان"، بل المجتمع بأسره، حين يُساس بنشر الرعب في صفوفه، وبما يمهد، بالتدريج، لإفناء الحياة السياسية، وحلول الصمت السياسي الذي ينعكس سلباً على التنمية، وعلى مظاهر الحياة برمتها، وهذا ديدن الأنظمة الشمولية التي تحتكر الصواب، وتُنكر التعددية الفعلية، كما تنكر على المجتمع الأهلية للمشاركة في صنع حاضره ومستقبله. ليس هذا ما طبع ثورة 25 يناير التي أشاعت عهداً من حرية التعبير، لا سابق له في تاريخ مصر، ولم يؤد ذلك، حينها، على الرغم من انفعالاتٍ جياشة إلى منازعاتٍ جسيمة تهدد السلم الأهلي. خلال ذلك، لم تنتعش جماعة الإخوان والسلفيون فقط، بل ظهرت تنظيمات اشتراكية وشيوعية عديدة في الشارع، في أول ظهور لها منذ عقود، فضلاً عن مجموعات الشبيبة من 6 إبريل وتمرد وعشراتٍ سواهما.
إذا كان عبد الناصر قد نجح في تصفية "الإخوان"، جنباً إلى جنب مع الشيوعيين، فقد تم ذلك في ظروفٍ لم تشهد معارك انتخابية، واتسمت بتمتع الزعيم الراحل بقاعدةٍ اجتماعية هائلة في سياق تاريخيٍ، انتزع فيه استقلال مصر السياسي والاقتصادي. ومع ذلك، فإن ناصر، بحكمه الحديدي، لم يستسهل إصدار أحكام إعدام بالجملة على عشرات ومئات من "الإخوان" وغيرهم، باستثناء حكمٍ منفرد على سيد قطب الذي أصبح بفضل ذلك الحكم مرشداً لأجيال من السياسيين الإسلاميين في مصر وخارجها. وعليه، لا وجه شبه، أو مقارنة، بين تلك الظروف قبل خمسين عاماً وهذه الظروف التي وصل فيها "الإخوان" إلى الحكم في الانتخابات. وصولهم بهذه الطريقة لا يطلق يدهم في تقرير مصير البلاد والعباد، وتحديد وجهتها، كما يشاؤون لقرون، لكنه لا يسوّغ، من قريبٍ أو بعيد، التصفية السياسية والمادية لهم، أو لغيرهم من قوى سياسية وحزبية واجتماعية.
في واقع الأمر، هناك ما يشبه الاستنساخ لتجربة البعث السوري في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين تم سن عقوبة الإعدام للمنتمين إلى "الإخوان" لارتكابات ارتكبها بعضهم، ولجرائم أخرى ألصقت بهم، ويربأ المرء بمصر المدنية، ذات التاريخ السلمي العريق، أن تتشبه بتلك التجربة الدموية المتوالية فصولاً في سورية.
وغنيٌّ عن القول أن المرء يجهر بذلك من موقع الاختلاف السياسي والأيديولوجي مع "الإخوان"، وفي الوقت نفسه، من موقع رفض أحكام الإعدام جُملة، وفي القضايا السياسية تخصيصاً. ومن أجل أن تعبر مصر طريقها إلى المستقبل، بغير احتقانات أليمة، ومن دون توتراتٍ عميقة، تفعل فعلها تحت السطح، وتهدد السلم الأهلي، كما تنذر بعسكرة الدولة، وتسييس القضاء، وانحسار الطابع المدني عنها.