تركيا... مخاصمة الحداثة

01 ابريل 2014

أردوغان يخاصم تويتر ويوتيوب

+ الخط -

ظلت تركيا حزب "العدالة والتنمية"، وقبل أن يصبح ذاك اسمه حتى، مختبراً مفتوحاً وكلية في الهواء الطلق، لاختبار الأسئلة التي طرحها دخول الإسلام السياسي والمرجعية الدينية إلى الحقل السياسي. تركيا، بكل شحنتها التاريخية، وما تحمله من مركبات نفسيةٍ وتاريخيةٍ ودينية، ارتبطت بالواقع الديني لعموم المسلمين، على الرغم من الانزياح الذي فرضته حركة التحرر العربية، في منتصف القرن الماضي وبداياته. كما تشكل أَيضاً، في تمثل جزءٍ من النخبة المسيّسة من رجال الدين لحظة فصام، بالمعنى الفرويدي، في الذهنية الإسلامية، كما جسدتها حركة الإحياء الإخوانية، وأوصلتها حركات الإسلام السياسي بعدها. فتركيا، بهذا المعنى، وريثة آخر معاقل الخلافة، كحلم مستمر في التاريخ.
وطوال السنوات العشر التي وصل إليها حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وكل رهانات القوة التي رافقته، سواءً مع العسكر الأتاتوركي، أو مع مكونات المجتمع، أو ما أثارته في العلاقة مع الغرب، من خلال تطورات محاولة الالتحاق مع الاتحاد الأوروبي، ظلت الأسئلة المحايثة، ذات صلة بمدى نجاح التجربة في إقامة الدليل على قدرة الإسلام السياسي في الذوبان في الديموقراطية، وقيمها المتعارف عليها كونياً.
وقد استطاع الحزب، وزعيمه رجب طيب أردوغان، في تدبير إشكالات هذه التركيبة، يسعفُه في ذلك نجاحه الاقتصادي والاجتماعي، والاستثمار الروحي العميق للشعب التركي، غير أن التقدير الإيجابي الذي أعطى لتجربة "العدالة والتنمية"، وزعيمه، قوة النموذج، يتآكل اليوم، ويراكم الهفوات حيناً، والخطايا حيناً آخر، في إطار معادلة مفارقة، تجعله يعطي، هذه المرة، النموذج على الانقلاب على الحداثة في بعديها المادي والقيمي.
كيف ذلك؟
عندما واجهته قضية الفساد، لم يحتكم زعيم السلطة والدولة في تركيا إلى عمادهما الأساس، متمثلا في القضاء، بل احتمى بمظاهرات الاستبداد الشرقي، في رفض كل متابعة، أَو محاسبة، ترتبط عضوياً بالمسؤولية في منظومة الدولة الحديثة.
ولمّا بلغت التداعيات الداخلية المدى الذي كان متوقعا بلوغه، أَي دخول الفاعل المدني والاجتماعي والشارع إلى معترك التعبير، واجهه بنزعة سلطوية غير مسبوقة، بحيث لم يتردّد في استعمال العصي، ثم اللجوء، في خطوة تصعيدية، إلى منع "تويتر" أولاً، ثم "يوتيوب" ثانياً، وهما من أدوات التحريض الثوري الديموقراطي التي استعملتها شعوب الربيع العربي.
والمفارقة، مرة أخرى، أَن تركيا كانت قد وضعت نفسها حاضناً رسمياً، روحياً وسياسياً لثورات الربيع العربي. وتصرفت، أَحياناً، كطرف جيوستراتيجي، معبّر عن هذه الثورات، كما حصل مع سورية ومصر.
بعد عقد من الرخاء الاقتصادي، والاستقرار وتنامي الدور الإقليمي، تبدو السلطة في لحظة هشاشةٍ غير مبررة، وغير قادرة على ردع نزوحها السلطوي، المحتمي بمظلته الشرقية الوثيرة. ما يطرح إشكالات على التجارب التي رسملت (من الرأسمال) نموذج "العدالة والتنمية"، كما حال حزب العدالة والتنمية المغربي، أو التي راهنت على دور تركيا في تغيير صورة الإسلام السياسي، وقدرته على التعايش مع قيم الاختلاف والاحتجاج. فقد تابع العالم كله كيف أَن دكتاتورياتٍ بليدةً وأميةً لم تفكر في منع "تويتر" و"يوتيوب"، حتى في لحظات ترنحها الأخيرة، في حين عمدت تجربة على مرمى حجر من معقل التعددية الديموقراطية إلى ذلك.
ولن يتخذ الانقلاب كل أبعاده، إِلا باستحضار السعي الحثيث إلى فرض توجه أَرثوذوكسي دينياً على المجتمع، بما في ذلك التنشئة الدينية الإجبارية، وتحويل معمار التاريخ المتعدد إلى فضاءات للطقوس الإسلامية وحدها (أَيا صوفيا نموذجا).
على ذكر التماثل المغربي مع حزب أردوغان، حدث أن استثمرت القوى الدينية السياسية إطلالات أردوغان (في دافوس مثلا وفي قضية الباخرة إلى غزة)، ووقوفه إلى جانب ثورات تونس ومصر، إضافة إلى قبول الغرب بالحكم الديني السياسي الذي يجسّده، في تسويق صورتها، واستمالة جزء من قوى الرأسمال الوطني، والطبقة المتوسطة، لصالحها، ما مكّنها من الوصول إلى السلطة، لكن القوى نفسها دخلت معها في صراع، بعد أن تبين ميل "العدالة والتنمية" المغربي إلى فتح الأبواب أمام منظمات أرباب العمل التركية.
سيكون على أردوغان، ختاماً، أن يتعامل مع ما تركته قراراته من سلبية في تقدير الإسلام السياسي، ولو ترعرع، في ظل علمانية معلنة، على التعايش مع قيم الديموقراطية والمحاسبة والتعدد العقائدي .. والوطنيات القائمة، بعيداً عن نزوعات الخلافة والتنميط السياسي.

 

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.