آلام باكستان التي لا مثيل لها

20 ديسمبر 2014

أطفال في إسلام أباد يتضامنون مع ضحايا مجزرة بيشاور(18ديسمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

مرّ يوم الثلاثاء الماضي طويلاً، كأنه بلا نهاية، وتلته ليلة مؤلمة ومؤرقة. أوى فيها الباكستانيون إلى الفراش في ساعة متأخرة تلك الليلة، ممزقين مثل قطع منثورة في كل مكان. لم يشعروا بالأمان، لينسوا يومهم العصيب هذا، فقد تعرّض 134 ملاكاً صغيراً لإطلاق النار من مسافة قريبة، معظمهم تلقوا الرصاصة في الرأس، بالإضافة إلى عشرات آخرين ممّن هم أكبر سنّاً، بما فيهم معلّمة شابة تم حرقها حية.

وفي هذه الليلة الباردة من شتاء بيشاور، وُضع الأطفال في أكفان بيضاء رقيقة، داخل نعوش خشبية، ليتغيّر، مع ذلك، كل شيء في بيوت عائلات الضحايا وأقاربهم وللأبد.

بالنسبة لشعب باكستان، الذي فقد أكثر من 60 ألف مواطن، وفيهم ضباط وجنود من الجيش والشرطة في حربهم مع حركة طالبان، فإن عدد ضحايا مذبحة 16 ديسمبر/ كانون الأول الجاري قد لا يُذكر. ولكن، مع ذلك، جاءت هذه المذبحة للتعبير عن الوضع الحقيقي على الأرض في باكستان، إذ وقفت إحدى الأمهات الثكالى في ردهة مستشفى ليدي ريدينغ في بيشاور تصرخ "الجبناء لم يتمكنوا من قتل رجالنا، فقتلوا أطفالنا في المدارس".

في تلك الليلة، استنزفت المستشفى كل ما تبقى من صبر ودماء في عروق أهالي الضحايا، عندما عرضت قوائم بأسماء الأطفال الذين قتلوا، أو نجوا من المذبحة. كان المشهد أشبه بيوم صدور النتائج النهائية في المدارس، حيث يتزاحم الأهالي حول القوائم المعلّقة، ليعرفوا نتائج أطفالهم الدراسية. ضمّت القوائم المعلقة في المستشفى أسماء الضحايا وبلداتهم وحالاتهم الصحية. كانت معظمها أسماء لشهداء، ومع ذلك، احتشد الأهالي الملهوفون أمامها، آملين أن لا يجدوا أسماء أطفالهم فيها، إلا أن خيبة الأمل كانت بانتظارهم.

ومع أن مدينة بيشاور كانت الملجأ لأكثر من مليوني لاجئ أفغاني، منذ نهاية السبعينيات، لكنها تبدو، اليوم، مثل مقبرة مليئة بالزهور، ودّع فيها الباكستانيون شهداءهم وسط تهديدات "طالبان" بمزيد من الهجمات الانتقامية في أثناء التشييع. وهذا ليس جديداً، فعلى مر السنين، هدد الانتحاريون بالهجوم على مواكب التشييع إشباعاً لرغباتهم الدموية.

على مر السنين، حاربت باكستان إلى جانب دول الشرق الأوسط الشقيقة، والولايات المتحدة وأوروبا ضد غزو الاتحاد السوفييتي أفغانستان، إلا أن الغرب ما فتئ يمارس ألعابه في باكستان، إذ موّلت بعض الدول اللاجئين الأفغان في باكستان للتصدي لإيران الشيعية في المنطقة. وقد قادت رغبة إسلام آباد في استضافة جميع المسلمين المنكوبين في العالم إلى فتح أبوابها، ليس للاجئين الأفغان فحسب، ولكن أيضاً لهؤلاء الذين اعتبرهم الشرق الأوسط متشددين إسلامياً، وخطيرين سياسياً.

ومع مرور الوقت، انسحب ممولو الثأر الأفغاني ضد السوفييت، ولم يعد لدى المقاتلين العرب ورفاقهم من آسيا الوسطى مكاناً يعودون إليه، فالحكام العرب، مثل زين العابدين بن علي ومعمر القذافي وحسني مبارك، لم يسمحوا لهم بذلك. لذا، تعهّد هؤلاء المقاتلون بتحويل أفغانستان إلى إمارة إسلامية، تحت قيادة أسامة بن لادن، كذلك تزوجوا من الأفغانيات والباكستانيات، وبدأوا حياة معزولة. وفي 11 سبتمبر/ أيلول 2001، دفع العالم ثمن إقصاء هؤلاء وعزلهم، وهم الذين تحركهم أيديولوجيتهم. وللأسف، لعبت إسلام آباد دور الجسر لهؤلاء بضع سنوات، على الرغم من سياستها المعلنة ضد "طالبان" والقاعدة.

لم يكن هذا الهجوم الأول من نوعه على مدارس الجمهورية الإسلامية، فقد نفّذ سابقاً عدد لا يُحصى من التفجيرات والعمليات الانتحارية. لكنها المرة الأولى التي يتنقل فيها المجرمون من صف إلى آخر، حاملين عشرات القنابل اليدوية والرشاشات الآلية، وهي المرة الأولى كذلك التي يطلق فيها الرصاص على الطلاب من مسافة قريبة، بينما كانت أعينهم مغلقة، وتحرق معلمة حية أمام أطفال هم دون سن المراهقة.

في العاشر من ديسمبر الجاري، احتفى العالم بشجاعة الفتاة الباكستانية، ملالا يوسف زاي، في أوسلو، إلا أن المجرمين الذين يحاربون باسم الإسلام والذين حالوا قتلها سابقاً، لم يتقبّلوا فوزها بجائزة نوبل للسلام. وبسبب ضعف الترتيبات الأمنية الباكستانية ضد الإرهاب، كان من الممكن أن تنفذ العملية يوم 11 ديسمبر، لكنهم اختاروا أن ينفذوا العملية في قلب مجمع بيشاور يوم 16 ديسمبر، أي في ذكرى تقسيم باكستان وإقامة دولة بنغلادش عام 1971.

يجتمع السياسيون تحت سقف واحد في بيشاور، وقد يتظاهرون بنسيان خلافاتهم مؤقتاً، لكنهم في النهاية سياسيون. وقد تدفقت التعازي من دول عديدة، منها الهند، المعادية، والولايات المتحدة على نحو غير متوقع. على أنها مسألة وقت فحسب، حتى تفقد هذه التصريحات الإنسانية من كبرى الدول معناها، وتعود الحسابات السياسية لتحكم مجدداً على أرض الواقع.

وعلى المنوال نفسه، وتضامناً مع مأساة باكستان، أعلنت تركيا الحداد العام مدة يوم، فهما "شعب واحد في دولتين". كما يعكس موقع "تويتر" استنكار الشعوب العربية ما حدث. ولكن، لا يمكن لأحد في العالم أن يشعر بآلام باكستان أكثر من الفلسطينيين والسوريين أنفسهم. وقد نشرت مرات لا تحصى الصور الشهيرة لأب فلسطيني، يحاول حماية ابنه حتى يفشل ويقبل جثته في النهاية. اليوم شعر الباكستانيون بما يشعر به الأب الفلسطيني يومياً. ويشاركهم في الألم السوريون الذين ما زالوا يرسلون أطفالهم إلى المدارس، على الرغم من وحشية بشار الأسد، واستخدامه الأسلحة الكيميائية منذ عامين. أما بالنسبة لبقية العالم، للأسف، فإن دماء الباكستانيين ستظل بلا ثمن.

وعلى الرغم من ذلك كله، استيقظ الأطفال الباكستانيون صباح الأربعاء، واستعدوا للذهاب إلى المدرسة كما اعتادوا، إلا أنهم لم يعودوا أطفالاً، فهم يعلمون أن مدارسهم أصبحت جبهات للقتال.

اليوم تريد أمهات الضحايا الإعدام الفوري لكل من الإرهابيين الخمسمئة القابعين في السجون الباكستانية. وعلى الرغم من أن غرض "طالبان" الدموي قد انكشف بلا شك، إلا أن مذبحة 16 ديسمبر الجديدة تبدو أنها، أخيراً، وحّدت الباكستانيين.