حكومة في تونس لا تسرّ الناظرين

28 يناير 2015

السبسي يطلع على قائمة حكومة الصيد (23 يناير/2015/الأناضول)

+ الخط -

تابع التونسيّون، على امتداد شهرين، أخبار المشاورات التي صاحبت تشكيل الحكومة الجديدة. وانتظروا الإعلان عن فريقٍ يلبّي تطلّعاتهم، وينسجم مع التصريحات المبشّرة بحكومة وحدة وطنيّة، تحوز رضا الجميع، لمواجهة الأزمات التي تتفاقم من سنة إلى أخرى.... ولكن هيهات، فحكومة الحبيب الصيد لا تسرّ الناظرين، ولا الناخبين.

إنّها الحكومة السادسة التي تعرف، كسابقاتها، جدالاً وشقاقاً، يذكّرنا بما وقع في قصّة البقرة، حيث طالت المفاوضات مع بني إسرائيل قبل العثور على بقرة، أكثروا اللجاج بخصوصها، فسألوا عن نوعها ولونها، وتشابه البقر عليهم، قبل أن يهتدوا، في النهاية، إلى بقرة "مسلّمة لا شية فيها". (والشِّية سواد في بياض أو بياض في سواد، وكلّ ما خالف اللَّون في جميع الجسد وفي جميع الدوابّ). هكذا تخبرنا القواميس التي قد تضيف قريباً مثال الحكومات التونسيّة المتعاقبة، وقد أريد لوزاراتها أن تَسْلَمَ من شِيَةِ النهضاويّين، (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال) أو المتعاطفين الطيّعين. وفي هذا الباب، أفتى النائب (الفطن)، منجي الرحوي، برأي في الوزير الذي تسلّم حقيبة الداخليّة، فاعتبره "شية"، لأنّه كان "مقرّباً من حركة النهضة، وطيّعا لها، وسيبقى طيّعا لكلّ من يوظّفه"، على حدّ تعبيره، المنسجم تمام الانسجام مع عقيدة الجبهة الشعبيّة، في انتهاج التمرّد والعصيان و"قطع الطريق"! وهي العقيدة التي رجحت كفّتُها، واستجيب لها بقصد أو بغير قصد، فحصل يساريّون متشدّدون على حقائب وزاريّة مهمّة، بينما فشلت حركة النهضة فشلاً ذريعا، ولم تجن من سياسة التوافق، وشعار المصلحة الوطنيّة، والثقة في قايد السبسي إلى حدّ اعتباره "رئيساً جاءت به الثورة"، إلاّ حرجاً في صفوف قياداتها، ومرارةً في قلوب أنصارها، وشماتةً على وجوه خصومها.

ومن المصادفات الطريفة أنّ الكشف عن تشكيلة الفريق الحكوميّ تزامن مع إعلان الحداد ثلاثة أيّام بعد وفاة الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، ما ساهم في إشاعة أجواء الحزن والشعور بالصدمة، بسبب "الأسماء المزعجة" التي ظهرت في قائمة الوزراء الجدد. غير أنّ تلك الأسماء لم تفاجئ أحزابا بعينها، كانت على أهبة المشاركة في الحكم فحسب، بل صدمت، أيضاً، قياديّين في حزب نداء تونس المعنيّ الأوّل بتسلّم السلطة. ما يدلّ دلالةً قطعيّةً على أنّ المشاورات خرجت في الساعات الأخيرة من الدوائر الحزبيّة إلى متنفّذين ولوبيّات تملك الكلمة العليا في ما يخصّ إدارة الشأن التونسيّ. وتعصف هذه الحقيقةُ الصادمة بمسار الانتقال الديمقراطيّ، وتضع الجميع أمام جملة تساؤلات حارقة، بخصوص الجدوى من الدستور، ومن التوافقات والمؤسّسات التي انبثقت عنها، وحتّى من الانتخابات التي بُذِلت لها طاقاتٌ بشريّة وماديّة هائلة.

كانت الانتخاباتُ، كما يبدو من الوضع الذي نُساقُ إليه، مجرّد تمرين على ديمقراطيّة صوريّة جوفاء، لا تفرز حكومةً من رحم نتائجها. تلك هي الحقيقة التي ستخيّب آمال الناخبين الذين خرجوا بمئات الآلاف، ليختاروا من يتولّى قيادة البلاد من بين الأسماء والبرامج التي عُرضت عليهم. والخطير المتوقّع في الانتخابات المقبلة أنْ يفقد التونسيّون ثقتهم في ذلك الأسلوب الحضاريّ للتداول على السلطة، بعد أن أقصيت أحزابٌ لها تمثيل محترم في المجلس النيابيّ، على رأسها حركة النهضة بـ 69 مقعدا... فلن يكون للانتخابات، مستقبلاً، قيمة تذكر، ما دامت لا تؤدّي، مع المشاورات التي تعقبها، إلى النتائج الموعودة، ولا للضمانات التي تعلن، سرّاً وجهراً، لتضليل أحزابٍ، أقدم بعضها على تنازلات خطيرة، من شأنها أن تؤثّر، عاجلاً أو آجلاً، على مصداقيّة خطابها، وعلى مستقبلها في بلد يأتي حكّامُه من خارج الصناديق، يإملاءات لا يُعرف مصدرُها يقيناً، لكنّها تنجح في فرضهم على الشعب، راضيا كان أو راغماً. ونتيجة ذلك كله، يجوز القول إنّه لا قيمة للأحزاب التي تنافست في لعبة ديمقراطيّة زائفة لا علاقة لها بمن سيحكم البلاد فعليّاً، ولا تعوزنا الأمثلة التي تبرهن على تلك الحقيقة المزعجة. فمن جاء بالسبسي ووزرائه بعد أن سقطت حكومة محمّد الغنوشي؟ ومن جاء بالمهدي جمعة والتكنوقراط الذين معه، بعد أن استقالت حكومة علي العريّض؟ إنّها، على الأرجح، الجهة نفسها التي جاءت بالحبيب الصيد، بعد أنْ حظي بإعجاب "صانع الزعماء" والذين معه من المتنفّذين داخليّا وإقليميّاً، والمقصود بالضرورة هو كمال لطيّف، رجل الأعمال المعروف بأدواره "في تعيين الوزراء"، كما أكّد أحمد نجيب الشابي، المرشّح السابق للرئاسة، ممتدحا صنيعه باعتباره "صديقاً بريئاً من تهمة التآمر على الوطن". وفي تصريح صحافيّ نادر، اعترف لطيّف بتدخّله في الشأن السياسيّ "خدمة لوطنه"، وقال إنّه أوصل الحبيب الصيد إلى وزارة الداخلية خلفا لفرحات الراجحي في حكومة السبسي. كان ذلك سنة 2011، وها هو يتسلّم رئاسة الحكومة في 2015، بعد انتخابات لم يشارك في منافساتها، ولم تشغله نتائجها؟

الأسئلة التي يمكن طرحها عن هذه المعادلة الغريبة في ديمقراطيّتنا الناشئة كثيرة، وعن الأحزاب وأدوارها في المستقبل، وعن أصوات الناخبين وأوراق الصناديق وجدواها؟ فلعلّ ذلك كله يصلح فقط لتأثيث الحفلات التنكريّة التي يتراقص فيها المترشّحون على أنغام الديمقراطيّة الجميلة، ثمّ يعودون إلى بيوتهم، فرحين بنجاح الانتخابات النزيهة الشفافة، ويجلسون أمام التلفزيون، ليسمعوا مع بقيّة أفراد الشعب أسماء الوزراء الذين تمّ اختيارهم "لتحقيق أهداف الثورة". هكذا قال لنا الحبيب الصيد في إعلانه تشكيلة "حكومة كلّ التونسيّين"، كما وصفها، فذكّرنا بزعيم آخر صُنع في "المخابر" نفسها في وزارة الداخليّة، وفي فجر السابع من نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1987، ألقى علينا بياناً تضمّن أهدافاً هي الأخرى جميلة. ظللنا نحتفل بها طوال عقدين، منتظرين تحقيقها من دون جدوى.

اليوم، أصبحت أهداف الثورة مجرّد يافطة لنيل الشرعية والمباركة. أهدافٌ قد لا تتحقّق، أبداً، لتبقى صالحة أطول مدّة ممكنة، ويستفيدَ منها زعيم بلغ مرحلةً متقدّمةً من الجاهزيّة لقيادة البلاد. وخلافُ ذلك زبدٌ يذهب جفاءً، وهشيمٌ تذروه الرياح.

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.