السبسي وقناع بورقيبة

25 فبراير 2015

السبسي وبورقيبة

+ الخط -

"سأقول كما قال بورقيبة في ثورة الخبز، نعود كما كنّا". هكذا تصدّى الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، لأخطر أزمةٍ، تزامنت مع تسلّم الحكومة الجديدة مهامّها. فارتدّ بنا، من سنة 2015 إلى 1984، العام الذي انتفض فيه التونسيّون احتجاجاً على مضاعفة أسعار الخبز لتخفيف الأعباء التي تتحمّلها الدولة. وأثبت بتلك الردّة ما يتمتّع به من بعد نظر، ولكن، في اتجاه الماضي السحيق، فهو صاحب نظرة رجعيّة ثاقبة.

صحيح أن الوقائع متشابهة، ومسرحها الجنوب التونسيّ، حيث سقط جرحى وقتلى. فتراجع بورقيبة عن الزيادات المشطّة التي شملت رغيف الخبز ومشتقّات العجين، وقال جملته الشهيرة: "نعود إلى حيث كنّا قبل الزيادات". وبتلك الجملة نفسها، حاول قايد السبسي طمأنة سكان الجنوب الذين انتفضوا للمطالبة بالتشغيل والتنمية. لكنّه أثبت، بذلك الاقتباس، أنّه غير قادر، مع حزبه الحاكم، على تقديم حلول جذريّة لشباب يعيش واقعاً مخالفاً تماماً لما كان موجوداً قبل ثلاثة عقود.

مع ذلك، لا يبدو الرئيس السبسي واعياً خطورة المقارنة بين زعيمين في فترة الشيخوخة والضعف، فيدفعنا إليها دفعاً، وقد ألحّ على استدعائها في آخر حوار تلفزيونيّ معه، بثّته القناة الوطنيّة الأولى. فكان فرصة إضافيّة لتكريس الدور الذي تقمّصه قبل الانتخابات وبعدها، بوصفه نسخة من الزعيم بورقيبة. والجديد في ذلك التقمّص هو المبالغة في إظهار دقّة الاستنساخ، من خلال الديكور الذي حفل بالتفاصيل البورقيبيّة، فجرى التصوير في مكتبه في قصر قرطاج، وكان تمثاله مكوّناً أساسيّاً من الزينة التي أحاطت بالمتحاورين، وحرص المخرج على إظهاره في الخلفيّة من زوايا متعدّدة. ويغري ذلك الحرص بالتفكّر في مبرّراته، خصوصاً أنّ الحوار، في حدّ ذاته، بدا كثرثرة مألوفة، عوّدنا عليها السبسي، كلّما تحدّث عن "سياسته الحكيمة"، بفيض من ذكرياتٍ يعتقد أنّها مازالت تصلح للحاضر والمستقبل. ويؤكّد ذلك التوجّه، من جهة أخرى، قناعتنا بأنّ قايد السبسي وصل إلى الحكم بموروثه الفلكلوريّ الذي لا يصلح إلاّ للمتاحف وصالات العرض. فلا برامج ولا رؤى ولا خطط لمعالجة الوضع المتردّي على جميع الأصعدة. وإنّما هي شعارات يردّدها كما تُردّد الأمثالُ والمواعظُ التي تطرب لها الأسماع، ولا ترى العيون ترجمتها على أرض الواقع أبداً.

هل يحتاج التونسيّون رئيساً يكرّر أخطاء الماضي؟ وهل بإمكان المناطق التي حُرمت من المشاريع التنمويّة في عهد بورقيبة، وخلفه، أن يصبروا طويلاً على "بورقيبة جديد"، يحكم شباب الألفيّة الثانية بسياسات قديمة ومسكّنات "لا تَصلُح ولا تُصلِح"؟

أجاب الغاضبون في محافظات الجنوب التونسيّ بالنفي، وغلب التشنّج على حوارهم مع وفد وزاريّ هرول إليهم، لتهدئة الوضع المحتقن، بعد المعالجة الأمنيّة العنيفة التي أدّت إلى سقوط شهيد وجرحى. ولأنّ حراكهم بلغ مستوى الهبّة الشعبيّة في مشهد ثوريّ، شبيه بما وقع في 17 ديسمبر/ كانون أوّل 2010، وبشعارات تطالب بالتشغيل والتنمية، نتوقّع أن يشتعل فتيل الغضب مجدّداً، إذا تجاهلت حكومة الحبيب الصيد، كغيرها من الحكومات السابقة، عللاً مزمنةً، تنخر النسيج الاجتماعي والاقتصاديّ لمناطق كثيرة، عانت، عقوداً، من التهميش والنسيان. فأنصافُ الحلول، من قبيل إلغاء الأتاوات والتراجع عن الزيادات، ليست سوى مسكّنات بسيطة، قرّرها "الحكيم" قايد السبسي، مستأنساً بصيدليّة بورقيبة، حيث المراهم والأعشاب تجاوزت آجال صلاحيّتها. والحكومة موافقة على ذلك الإجراء، ومجبرة، في الآن نفسه، على "اختراع" أتاوة جديدة لتمويل خزينتها.

وهكذا تتضح معالم السياسة الاعتباطيّة لحكومات يغلب على عملها التذبذب، فتتسرّع في اتخاذ إجراءاتٍ، مصيرها الإلغاءُ، بأوامرَ فوقيّةٍ تنمّ عن غياب مستمرّ للتخطيط ورسم السياسات الرشيدة على المدى البعيد. وبالقناع الذي اتخذه السبسي جُنّةً ووقايةً، تتشكّل الصورة العامّة بأسلوب كاريكاتوريّ، يثير الشفقة على مؤسّسة الرئاسة، وعلى مستشاريها الذين سكتوا على ذلك التمشّي، بقصدٍ لا شكّ فيه. فكيف لعاقلٍ أن يوافق الرئيسَ على المضيّ في تقمّص شخصيّة بورقيبة، شكلاً ومضموناً، بنسخة السنوات الأخيرة من حكمه. ففي تلك الفترة، فقد بورقيبة الكثير من قدراته العقليّة والبدنيّة، وأصبح رئيسا "مؤقّتاً" يتربّص بمصيره المتآمرون. وهكذا، فإنّ تكرار المشهد يورّط المحيطين بقايد السبسي، ويدلّ على مساهمتهم في عزله عن الواقع والحاضر، ليظلّ سجين الذكريات البورقيبيّة، يردّد أقواله، ويتباهى بأفعاله التي أدّت إلى الانقلاب عليه. ولا تحتاج البرهنة على ذلك بالضرورة إلى تصريحات من خصوم قايد السبسي، فقد أثار قياديّون من حزبه، نداء تونس، تساؤلات مبكّرة عن هويّة "الحاكم الفعليّ". فصرّح خميس قسيلة، محذّراً من خطورة المستشارين المحيطين بالرئيس، وقال:"الحاكمان الفعليّان في قصر قرطاج هما محسن مرزوق ورافع بن عاشور، الباجي قائد السبسي مغيّب في القصر، ولا سلطة له". .وانتشرت، في السياق نفسه، تسريبات تتحدّث عن رئيسين في قرطاج، قايد السبسي في الصباح ومحسن مرزوق في المساء. لذلك، يُخشى أن يُبطِلَ رئيس المساء قرارات الصباح، في مقدّمة لإقالته بسبب العجز، وما شابه من الاضطرابات، تماماً كما فعل بن علي. والتاريخ يعيد نفسه بدقّةٍ متناهيةٍ، عندما يتعلّق الأمرُ بالسياسة ومسارحها وأقنعة ممثّليها، لكنّ التونسيّين متفرّجون بارعون، يضحكهم قناع بورقيبة، ولا يخيفهم قناع بن علي، ولا يستطيع خداعهم من جديد.

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.