يوم لبناني نموذجي
السادسة وأربعون دقيقة صباحاً. تحتل الشمس نصف مساحة السرير، وتبدأ حريقها الهادئ، في غياب المروحة الكهربائية التي تتوقف مع انقطاع التيار عند السادسة. لا إمكانية لنومٍ أبعد من ذلك، خصوصاً أنّ المنبه الحارق ضروري، لأجل مهام يومية أساسية، قبل بدء دوام العمل في التاسعة.
على الدرّاجة النارية الصغيرة، تبدأ جولة تستمر نحو ساعة على الصيدليات، عسى أن يكون يوماً موفقاً يمكن أن يتوفر فيه دواء مفقود، هو بديل لدواء مفقود قبله بمدة. غالباً لا يتوفر أيضاً. وبعد يأس كامل وتبدد البنزين من الخزّان الصغير للدراجة الذي لا يتسع لأكثر من ثلاثة ليترات، ووصول إلى شفا الانقطاع، وقوف في طابور فوضوي من الدرّاجات، مختلفة الأحجام والأغراض، بشكل هندسي معاكس لطابور السيارات الممتد كيلومتراً على الأقل.
تقترب التاسعة ولا ينتهي نصف الطابور حتى. لا بدّ من الخروج الصعب والجدال مع شخص أو اثنين والصراخ وصولاً إلى حدّ الاشتباك بالأيدي. لكنّه مجرد تعايش بسيط بيننا، من مدجنين على الاشتباك الأفقي وعدم الانتفاض العمودي حتى على عامل خرطوم البنزين يتسلط، ويمرر من جهة مخالفة للطابور من شاء من الدراجين الذين "يخصّون" الحزب الذي تقع المحطة في مناطق نفوذه، ممن يملؤون خزاناتهم ويفرغونها في مكان ما ليعودوا ويملؤوها مجدداً وهكذا، أو الذين ينقدونه مالاً "برّانياً".
العمل عن بُعد، بات معتاداً في زمن كورونا. لكنّ الاحتمال الوحيد لاقتناص قليل من البرودة بعد حرّ كبير رفعت درجاته رحلة الصباح
خروج من الطابور، وتجاوز لازدحامات على محطة ثم أخرى، ووصول على الموعد، أمام شاشة اللابتوب، خصوصاً أنّ المصعد في هذا الموعد يعمل بفضل الاشتراك المقنن العائد عند الثامنة. أما كهرباء الدولة فتصح عليها أغنيات عن ذلك الزمن القريب الجميل الذي كانت تتوفر فيه التغذية أربع ساعات ثم أربع ساعات انقطاع وهكذا، من دون أن تشطح الذكريات إلى مستوى انقطاع الكهرباء ثلاث ساعات يومياً فقط في زمن أبعد.
العمل عن بُعد، بات معتاداً في زمن كورونا. لكنّ الاحتمال الوحيد لاقتناص قليل من البرودة بعد حرّ كبير رفعت درجاته رحلة الصباح، المروحة الكهربائية التي يتحمل قدرتها اشتراك الخمسة أمبيرات، مع بعض اللمبات والأجهزة. نعمة المروحة تلك سرعان ما تزول، إذ يعود التقنين القاسي عند الحادية عشرة، فيستمر انقطاع التيار حتى الثالثة بعد الظهر. بعدها فترة، بل فقرة كهرباء كأنّه برنامج ترفيهي، حتى الرابعة والنصف، ليعقبها انقطاع حتى السابعة والنصف.
بطارية اللابتوب يمكن أن تخدم، في أحسن الأحوال، ساعتين بعد الحادية عشرة. إذاً، هناك ساعتا ضغط عمل بين الواحدة تقريباً والثالثة موعد حضور الكهرباء بجلالها، ولا بدّ من تغطيتهما.
ما العمل؟ لا بدّ في هذه الحال من الذهاب إلى منزل الأهل، مع المخاطرة باحتمال نفاد الوقود القليل المتبقي قبل الوصول. الطريق المختصر من عين المريسة على الكورنيش البحري لبيروت إلى حارة حريك في ضاحيتها، نحو سبعة كيلومترات، واحتمال نفاد البنزين لا يعود مجرّد احتمال، بل واقع يفرضه انطفاء المحرّك في قلب نفق بشارة الخوري، ربما للتذكير بنكتة الاستقلال المتواصلة.
انتظار سيارة السرفيس مرير، إذ إنّ سيارات أجرة كثيرة تنتظر على محطات البنزين لملء خزاناتها، أو تتوقف قسراً عن العمل للسبب نفسه
لا انشغال في تفكير كثير، بل دفع للدراجة صعوداً، وربطها بشجرة في أقرب نقطة آمنة نسبياً، من لصوص محترفين يحملونها حملاً وإن كانت مقفلة، أو درك متذاكين يحجزونها، لوجودها وحيدة في مكانها طويلاً.
انتظار سيارة السرفيس مرير، إذ إنّ سيارات أجرة كثيرة تنتظر على محطات البنزين لملء خزاناتها، أو تتوقف قسراً عن العمل للسبب نفسه. ركوب بعد تعب، ووصول عند الثانية تماماً، مع موعد مختلف للتقنين هنا، إذ ينقطع التيار لحظة الوصول، فلا نجاة من الأدوار السبعة هذه المرة.
متى يعود الاشتراك بالمولّد الكهربائي الخاص؟ لن يعود قريباً... الانتظار غير مجدٍ، ولا بدّ من الذهاب إلى المكتب، على الرغم من التحذيرات الكورونية، فهو المكان المضمون كهربائياً. وبالفعل عودة مع حقيبة اللابتوب إلى الشارع بعد اغتسال سريع وتغيير للملابس التي صارت مزيجاً بين العرق والغبار والبنزين وزيت الماكينات، وانتظار آخر للسرفيس. منطقة المكتب في الجمّيزة ما زالت آثار انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020) تحفر فيها كثيراً من الآثار المادية، قبل الحديث عمّا حفرته في أجساد الضحايا والناجين وأرواحهم، لا سيما المصابين. تبقى ساعتان على انتهاء الدوام. أما المكتب نفسه فعاد إلى عهده ما قبل الانفجار، بجهوزية كاملة .. سلام من هنا وهناك، واستكمال مريح للدوام.
المشي خمسة كيلومترات بهندام غير رياضي وبحقيبة على الظهر يمنع النظر إلى نصف كوب ملآن يتحدث عن فوائد هذا التمرين
المغادرة ليست إلى المنزل أو منزل الأهل، بل إلى حيث الدرّاجة تشتاق إلى راكبها، أو لعلّها اختارت راكباً آخر فلا شيء مضموناً. لكنّ الدراجة، في كلّ الأحوال، تحتاج إلى بنزين. إذاً لا بدّ من المضيّ إليها مشياً للتمكن من الاستحواذ على كمية وإن ضئيلة تسمح بتشغيلها. سؤال عن محطة وأخرى، وسؤال عند محل للخردة وآخر للأدوات الكهربائية. لا بنزين، وشكوك من آخرين بمصالح حماية مستهلك، وهمية، تجري تحقيقات ومداهمات. المشي خمسة كيلومترات بهندام غير رياضي وبحقيبة على الظهر يمنع النظر إلى نصف كوب ملآن يتحدث عن فوائد هذا التمرين. لكن لا مشكلة، فصاحب محل أدوات مطبخية قرب الدراجة وهي في مكانها بالفعل، يدلّ على ابن صديق له في أحد الأزقة القريبة نسبياً، يبيع البنزين. رحلة بين الأزقة ووصول إلى المهرّب الصغير، الذي لا يخشى أيّ مداهمة أو تحقيق، بل يصرخ عالياً من دون سبب لزميل له: "نحن سوق سوداء، ونبيع البنزين" كأنّه ينادي على بضاعته من الفواكه والخضار الطازجة كالعادة التي تجدّدت أخيراً للبائعين المتجولين. اتفاق على ليترين لا أكثر بما يعادل ثلاثة أضعاف ونصف السعر الأصلي. فهل من احتمال هنا لأحد ضروب المثالية، تلك التي ترفض التعامل مع سوق سوداء؟ قطعاً لا، ومن دون تبرير ذاتي أيضاً، فنحن وكلّ شيء آخر نقع في خانة النتائج حالياً، أما الأسباب فلا يعلم عنها غير من يتحكمون بهذا البلد؛ بقراره ودولاره وكهربائه وبنزينه .. بل إنّ التبرير، إن وُجد، يمكن أن يُعطى للمهرّب والناشط في السوق السوداء، لولا أنّهما مرتبطان، بشكل أو بآخر، بصاحب الأسباب ذاك في تحالفه المالي - السياسي - الديني، المتأله في السلطة منذ وُلد هذا الكيان غصباً وقهراً قبل قرن.
كيف يتبدل سعر الدولار ليلاً؟ لا بال فارغاً الآن، لضرب الأخماس بالأسداس، فالمهم الوصول، وغداً يوم نموذجي لبناني آخر
بعد هذه التفاصيل، وملء جزء من خزان الدرّاجة، يبدو مبالغة اكتشاف ثقب دولابها الخلفي. الدفع حتمي مجدّداً فاحتمال العثور على "بنشرجي" قريب في التاسعة مساء مستبعد. الوصول إلى مكان آمن ضروري، وغداً تفاوض جديد مع "البنشرجي" على دولاب يؤكد أنّه "فيتنامي لا يزحّط (ينزلق) بـ20 دولاراً". الكلام كان عندما وصل الدولار إلى 23 ألف ليرة، فهل سيبقي على سعر الـ20 دولاراً بعدما هبط الدولار، من دون أيّ منطق اقتصادي، إلى 17 ألف ليرة؟ الأمر مستبعد، حتى لو توسّط رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي نفسه، فوزير الاقتصاد "أمرَ" بتعديل الأسعار نزولاً، بالترافق مع نزول الدولار، ليقابل أحد المتحكّمين بالأسعار فوراً هذه الدعوة – الأمر، بتجاوب مشروط إذ قال: "الأسعار ستتدنى تلقائياً إذا بقي الدولار يهبط". وما إن قال ذلك، حتى صعد الدولار مجدداً على التطبيق الهاتفي، رغم أنّه مساء لا شركات مالية عاملة فيه ولا مصارف ولا شركات صيرفة وصرافين شرعيين، ولا حتى نكتة حاكم مصرف لبنان، المسماة منصة "صيرفة".
كيف يتبدل سعر الدولار ليلاً؟ لا بال فارغاً الآن، لضرب الأخماس بالأسداس، فالمهم الوصول، وغداً يوم نموذجي لبناني آخر.