مصيبة اللبنانيين التي تجمعهم وتفرّقهم

25 ديسمبر 2021
+ الخط -

الانهيار متداخلٌ وشاملٌ في لبنان، والحقوق في تراجع مستمر، رغم النضال الطويل، إذ لم يتمكّن اللبنانيون بفئات وشرائح مختلفة، طوال عقود، من تعزيزها. .. مع نهاية العام، وفي ظلّ أزمة معيشية، تبدو الأخطر في تاريخ البلد الصغير، يفضل كثيرون تأجيل الحديث في القضايا الحقوقية باعتبار أنّ القضايا المعيشية أكثر إلحاحاً، لكنّ التداخل حاصل دائماً، وفي أوضح مثال عليه حقوق المودعين في المصارف، ولا سيما صغار المودعين، أولئك الذين احتُجِزت أموالهم وجرت المساومة عليها، ليفقدوا ثقتهم بالنظام المصرفي كلّه.
أعمدة السلطة الفاسدة المستندة إلى النظام الطائفي لم تتزحزح، حتى في أعقاب حراك 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، الثوري الشعبي، وحتى في أعقاب انفجار 4 أغسطس/ آب 2020 الرهيب. يمكن أن يقال عن هذا النظام، على سبيل الذمّ، إنّه "مهترئ"، مقارنة بأنظمة متقدّمة حقوقياً، لكنّه نظام جبار بتلك الطائفية بالذات، وبتعدّد رؤوسه، حتى يكاد يكون الرئيس والوزير والمسؤول في السلطة، غير ذوي قيمة مقارنة بزعماء الطوائف. والأسوأ أنّ لهؤلاء الزعماء مناصبهم في تلك السلطة أيضاً.
هذا النظام القائم على ثالوث حاكم يغذّي بعضُه بعضاً، من زعماء سياسيين، ومؤسّسات دينية، ومصرفيين ورجال أعمال كبار، يحول دون تمكّن اللبنانيين من الحصول على حقوقهم بشكل طبيعي، كما تقرّه الاتفاقيات الدولية، بل إنّ لكلّ حق من الحقوق معاركه التي تتولاها الفئات المهمشة نفسها.

الطبقية قائمة في لبنان، وتشير إلى أنّ هناك أقلية غنية جداً وأكثرية فقيرة جداً تتسع الهوة بينهما عاماً بعد عام

على هامش الانهيار الاقتصادي وإبداعات حاكم مصرف لبنان في تجفيف دولارات المودعين (وما الحاكم غير واجهة لعديدين من أقطاب النظام الطائفي المثلث)، فإنّ المساومات على حقوق اللبنانيين كثيرة وعديدة، منها أنّ حق المرأة اللبنانية بالمساواة مع الرجل في حضانة أطفالها بعد الطلاق يخضع للمحاكم المذهبية العديدة وقوانينها الكثيرة التي تُخضع الجنسين معاً لسلطانها الظالم للمرأة في أحيانٍ كثيرة. وحق الأم اللبنانية المتزوّجة من أجنبي بتمرير جنسيتها لأطفالها ولزوجها محكوم بتمييز جندري فاضح، يتماهى كذلك مع مخاوف عنصرية تنبع من قلب المنظومة الطائفية بالذات، والخوف من غلبة طائفةٍ على طائفة، وتعتبر اللبناني من هو مولود حصراً لأب لبناني، أما أبناء الآباء غير اللبنانيين والأمهات اللبنانيات، خصوصاً إذا كانوا من دول الجوار، فلا حق لهم بتلك الجنسية. كما أنّ حق الأشخاص ذوي الإعاقة في الدمج في مختلف مجالات الحياة يحول التلكؤ والتهميش والاستهتار دون تطبيقه، على الرغم من القانون 220/ 2000 الذي مضى على إقراره 21 عاماً، من دون إصدار المراسيم التنفيذية له، وعلى الرغم من توقيع لبنان على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عام 2007، من دون المصادقة عليها.
وفي البداية والنهاية، الطبقية قائمة في لبنان، وتشير إلى أنّ هناك أقلية غنية جداً وأكثرية فقيرة جداً تتسع الهوة بينهما عاماً بعد عام. وبينما السيئ أنّ الفقراء لا ينالون معظم حقوقهم التي أقرّها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات المتعاقبة، فإنّ الأسوأ أنّ ما ينالونه يساوَمون عليه، فلا يُمنح لهم بوصفه حقا، بل منّة من زعمائهم المذهبيين. الأزمة الاقتصادية الراهنة، ومعها كورونا، زادت الأمور سوءاً؛ زادت أعداد الفقراء، وزادت أعداد العاطلين عن العمل، وزادت الفوضى في مجالاتٍ عدة، أمنية وإدارية وتربوية وغيرها، ما أتاح أيضاً فرصاً كبيرة للخارجين عن القانون لممارسة نشاطاتهم المتنوّعة سطواً ونشلاً وتجارة ممنوعات واستغلالاً للأطفال في أعمال التسوّل وغيرها، وهي نشاطاتٌ تستهدف تلك الأكثرية من الفقراء غالباً، وليس غيرهم ممن يحتمون بحراساتٍ وتحصينات، بل تتداخل مصالح هؤلاء الأخيرين مع مصالح الخارجين عن القانون، وربما أكثر من مجرّد تداخل.
في هذا الحال الثابت من الانهيار، هل يمكن أن نشهد تجدّداً للحراك الثوري بزخم أكبر وأكثر فاعلية في 2022، بعيداً عن مهدّئات الانتخابات المرتقبة؟ هل يمكن أن يثور المقموع والمقهور والمهمَّش ضدّ من يحرمه من الحقوق أبد الدهر؟ هل يعرف هدفه بالذات، أم أنّ الرضى بأنصاف الحلول بل أرباع أرباعها هو النهج الثابت المترافق مع انتظار حلول سماوية؟ أليس الزعيم، أيّ زعيم، جزءاً من السلطة؟
أسئلةٌ تبقى في خانة الأزمات الحالية ومدى قدرة زعماء الطوائف وأحزابهم، على شدّ اللبنانيين إليهم، رغم ما يعيشونه من أزماتٍ معيشية وانتهاكات حقوقية وآفاق مسدودة، فالمصيبة تجمع اللبنانيين فعلاً، لكنّها، في الوقت نفسه، تفرّقهم كلما دخل محرّك الطائفية إلى مشترَكاتهم.

F79ED122-582A-49B8-AE82-4B38F780EFB4
عصام سحمراني
صحافي لبناني، سكرتير تحرير مساعد في الصحيفة الورقية لموقع "العربي الجديد".