يحيى السنوار زعيماً
ابتهجت إيران، ومعها وكلاؤها، بانتخاب يحيى السنوار زعيماً لحركة حماس، وبالتالي لغزّة. ... لماذا؟ لأن ذلك هو "الردّ الصحيح على اغتيال إسماعيل هنيّة"، ولأنه يعني أن "حماس رفعت مستوى التحدّي" (منبر ممانع). ولأنه يعني أن "الاحتلال فقد الأمل بمستقبله" (رئيس أركان الجيش الإيراني). ولأنه مؤشّر أيضاً إلى الأمل والانسجام والقوة والنصر في حركة حماس والشعب الفلسطيني ومحور المقاومة" (وزير الخارجية الإيراني). وهو يعني أن "مسيرته ستبقى مستمرّة حتى تحرير أرض فلسطين كلها حول محور القدس" (القائد العام للحرس الثوري اللواء حسين سلامي). فيما إسرائيل، وبلسان مسؤولين مختلفين، أجمعوا على قولةٍ واحدة بوجه هذا الانتخاب: يجيئ قتل السنوار كما قتل هنيّة. وتتلخص بكلمة وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس: "تعيين الإرهابي يحيى السنوار زعيماً جديداً لحماس ليحل محل إسماعيل هنيّة، هو سبب مقنع آخر للقضاء عليه بسرعة ومحو هذه المنظمّة الشريرة عن وجه الأرض".
ما يعطي القوة لهذين الموقفين المتناقضين ما يحصل على أرض غزّة. المجزرة فيها مستمرّة، يومية، ولكن "حماس" استعادت بعضا من قدراتها. في شمال غزّة ووسطها، التي يقول الجيش الإسرائيلي إنه "نظفها" (مسحها)، أعادت نصف الكتائب بناء قدراتها التسلحية. من بين 24 كتيبة في "القسّام" ثلاث فقط دمّرت تماما. ثمان منها "ذات فعالية في القتال"، و13 تعتبر "متضرّرة" ولكنها قادرة على شنّ هجمات غير صائبة متفرّقة شبيهة بحرب العصابات. أعادت بعض الكتائب الاندماج بأخرى. انتسب إلى بعض الكتائب مقاتلون جدد، ينصبون الفخاخ والكمائن ... إلخ.
وربما يشير تزايد شراسة الهجمات الإسرائيلية على مواقع متفرّقة من غزّة إلى هذه الانبعاثة الجديدة لكتائب القسّام، فما يجنّن جيشها أنه يشهد ولاداتٍ جديدة في أحياء أو مواقع اعتقد أنه انتهى من أمرها، وها هي ما زالت تطلق عليه الرصاص.
في شمال غزّة ووسطها، التي يقول الجيش الإسرائيلي إنه "نظفها" (مسحها)، أعادت نصف الكتائب بناء قدراتها التسلحية
يحيى السنوار مخطّط عملية طوفان الأقصى، وإدانتها تحتمل اللبس. بين المبالغة الإسرائيلية - الأميركية - الغربية التي اعتادت أن تكون هي القاتلة والمهيمنة أمنياً خصوصاً، والمغالاة في الترحيب بها بصفتها "أعظم عملية عسكرية خاضها الفلسطينيون في تاريخهم"، ثمّة نقطة وسط بينهما تراها كسجين ينتفض على سجّانه بإمكانات جديدة ومفاجئة، تتلخّص بالمهارة الأمنية وحسب.
ومن نتائج إيجابية للعملية، أولاً، أنها زعزعت ثقة إسرائيل بأمنها، هي القائمة على مجتمع إسبارطي ذي إمكانات نووية عسكرية وتكنولوجيا في خدمة حمايتها من محيطها المعادي، فزادت من التوظيف في المجالات هذه، وشرعت في تجنيد حفظة التلمود الممتنعين عن القتال. وثانياً، أن معركة جناح إسرائيل العلماني ضد مشروع حكومتها بالإمساك بالقضاء، أي معركته من أجل الديمقراطية، بدت بائتة أمام هوْل رد فعلها على الطوفان. انتعشت القراءات اليهودية والإسرائيلية بشأن استحالة الفكرة الصهيونية وهشاشة الكيان الإسرائيلي. ثالثاً، أنها فجّرت القضية الفلسطينية بوجه العالم كله. ارتفع العلم الفلسطيني في عواصم وأزقة الغرب والعالم، فتحت صفحات التاريخ، وعُدنا إلى مناخات النكبة والطرد وحرق القرى. وامتلأت الشبكة بمئات من الأقوال والرسائل والفيديوهات متعاطفة، مؤيدة، متحمسة، متألمة.
الحل المعروف عن السنوار أن لا حل إلا بإزالة إسرائيل
هذا كله ليس بفضل الطوفان بحد ذاته، إنما بـ"فضل" الوحشية الإسرائيلية البالغة بالردّ عليه. الأطفال والنساء والرجال والتراب والسماء والبحر وكل شكل من أشكال الحياة قتلته إسرائيل. هذا الذي فتح أبواب التضامن مع الفلسطينيين وفتح ملفاتهم القديمة والضغط على الحكومات ... إلخ. في هذا الشق من العالم، لم يتحمّس أحد لحركة حماس وعمليتها. بالعكس. هيئتان عالميتان جمعتا ارتكابات إسرائيل و"حماس في الطوفان" في نص واحد ودانتهما. محكمة الجنايات الدولية برئاسة كريم خان طلبت إصدار مذكّرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت والسنوار وإسماعيل هنية، ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تتهم إسرائيل وحركة حماس بـ"ارتكاب جرائم حرب".
والسؤال الراهن الموجّه إلى الزعيم المكرس يحيى السنوار، الذي تطرحه الموجة العالمية المتعاطفة مع فلسطين وأهل غزّة: نادينا منذ البداية وما زلنا ننادي بوقف الحرب. ما هو موقفك من وقف الحرب؟ ما هي شروطك لوقف النار؟ هل سيكون مبعوثك إلى المفاوضات محمّلا بتعليمات واقعية لوقف النار؟
السؤال الثاني: الحل الذي أجمع عليه هذا الرأي المتضامن، والرأي العربي بمجمله، إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967. فهل يوافق السنوار عليه، أم يعتمد على رفض إسرائيل له رسميا عبر الكنيست ليرفضه؟ علما أن الحل المعروف عن السنوار هو أن لا حل إلا بإزالة إسرائيل. مثل كل عقائديي الإسلام السياسي إن الإيمان يقتضي على المسلمين إقامة فلسطينهم على كامل التراب.
الرغبة بمواصلة القتال على أنقاض غزة وأهلها موزّعة بين إرادتين عدوتين. واحدة بغرض إبادتهم وطردهم والثانية بإيمان مسياني عن الشهادة والاستشهاد
وقبل هذه التساؤلات عملية الطوفان بحد ذاتها: هل فكّر السنوار بعواقبها؟ كلا لم يتوقّع. وفي هذه الحالة، ينضم إلى قافلة "لو كنت أعلم" إذا كتبت له الحياة بعد نهاية حرب غزّة. ... كلما زاد عدد القتلى وأبطال المأساة انهالت على إسرائيل الإدانات العالمية، وصارت هي المنبوذة، وفقد يهود العالم خارج إسرائيل أمانهم واحترامهم. وصدقيّتهم... وعبارته عن "الضحايا المدنيين تضحية ضرورية" (صحيفة وول ستريت جورنال، 11/6/2024)، لا تحتاج إلى تفسير. حسابه مع الموت مفتوح. لا حدود للاستشهاد.
يواصل نتنياهو حربه القريبة بموازاة البعيدة. كل يوم يعلن عن وعد بالانتصار الشامل ويقتل بالعشرات ويدمّر المدمر وينقل النازحين من إيواء إلى آخر، يلاحقهم مثل العصافير. لذلك، الرغبة بمواصلة القتال على أنقاض غزة وأهلها موزعة بين إرادتين عدوتين. واحدة بغرض إبادتهم وطردهم والثانية بإيمان مسياني عن الشهادة والاستشهاد تضع الموت في مرتبة الرجاء. وبينهما يحتل الثأر قائمة الخوف. الثأر الإسرائيلي من الطوفان والثأر الحماسي من ضحايا الرد الإسرائيلي على الطوفان. وبينهما أهل غزّة الذين دفعوا من دمهم ثمن هذه الحلقة الجهنمية. في حين أن كل ضجيج "وحدة الساحات"، بقيادة إيران التي يقيم السنوار في أحضانها، لم تؤجل لحظة واحدة ذاك المصاب الذي ألمّ بأهل غزّة، والذي يدرج حالياً تسميته "النكبة الثانية".
ماذا في كل هذا الأفق؟ هل يتخلّى السنوار عن شيء من سلطته، ويلتقي بالأطراف الفلسطينية والشخصيات العاملة على توحيد الموقف الفلسطيني؟ أو هل ينقلب على نفسه ويخوض مفاوضات مسؤولة تفضي إلى انسحاب إسرائيلي من غزّة وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين؟