يحدُث أول مرة في تاريخ تحرّر النساء ..
زمن تحرّر النساء ليس بالبعيد، إذا ما قيس بعشرات آلاف السنوات من العبودية السابقة عليه. عمره أقل من قرن ونصف القرن. أخرج نساء الكوكب من البيت. بتفاوتٍ بين أغناهن وأقلهن غنى، بين شرقهن وغربهن. وهذه هجرة أبعدتهن عن مهمات البيت شيئاً فشيئاً، وقرّبتهن من عالم الرجال، فاكتسبن مهاراتهم: تعليم، عمل، سياسة. وبالاحتفاء دائماً بأولى من وصلت إلى تلك الشهادة، ذاك الموقع، أو المهنة، مما كان بالأمس حكْراً على الرجال.
تعليم، عمل، سياسة... الثلاثة أخذت تدريجياً النساء إلى الخارج، المدرسة، الجامعة، المصنع، المكتب أو الشركة أو السفارة، النيابة أو الوزارة أو الرئاسة العليا للبلاد. واللوحة متحرّكة، مفاجئة أحياناً: هنا وهناك، بتقاليد نسوية موروثة، ومن دونها، تخترق النساء المجال الجديد، العام. ومن دون أن تُعفى من مشقّات المجال الخاص ومهماته، من أمومة، وطبخ وتنظيف وترتيب منزلي... إلّا بما تيسّر، بحسب كلّ دولة ومواردها.
ماذا حصل للنساء في الوباء؟ عدْنَ إلى صميم الداخل، وصميم المهمات المترتّبة عليه
ورستْ في هذه الأثناء تقاليد معرفية جديدة، مثل مقارنةٍ بين ساعات عمل النساء في البيت وساعات عمل الرجال فيه. والمقصود نساء عاملات في الخارج. لتخلص دائماً إلى أنّ المرأة ما زالت تشتغل فيه بعدد من الساعات يتجاوز عدد تلك التي يبذلها الرجال. أي ما زلن ملحوقات، متعدّدات المهارات، وافرات الجهود، مع فروق كبيرة بين الدول، أيضاً، بتقاليد نسوية تحولت إلى قوانين، أو بتقليد هذه التقاليد، كما يحصل في البلدان الأقل عراقةً بالميراث النسوي.
هذا الخروج التاريخي للمرأة إلى عالم الرجال أصيب بالتوقف منذ اللحظة الأولى للإعلان عن انتشار الوباء. وكان من ضرورات الحدّ منه البقاء في البيت، في الداخل، فانتكس مسار الخروج هذا، بعدما كان يحضر كلّ سنة قمة جديدة من القمم التي بلغتها النساء.
ماذا حصل للنساء في الوباء؟ عدْنَ إلى صميم الداخل، وصميم المهمات المترتّبة عليه. يعني: على المرأة أن تتدبر تربية الأولاد، متابعة دروسهم، عن قُرب أو عن بُعد، إعداد الطعام، تنظيف المنزل. وإذا كانت تعمل، فهي عاطلةٌ من العمل أو تقوم بعملها إلكترونياً، أي من داخل المنزل. هي وحدها، من دون مدارس ولا حضانات ولا مساعدة منزلية ولا أهل ولا جيران؛ ولا واحدة من الشبكات المعتمدة لدعم النساء صاحبات المهمات المزدوجة، أو لغيرهن من غير العاملات اللواتي شققن طريقهن إلى واحدٍ من دروب الخارج. أما في حال كان شريك هذه المرأة عاطلاً من العمل، أو يعمل إلكترونياً، عليها أن تسهر على متطلباته "البيتية"، أن تعدّ له الطعام، أن تنظف، أن ترتّب من خلفه .. إلخ. "مشاركته"، أحياناً، تجنباً للنقّ، لا تساعد. وتحضر حسب مزاجه، المتَعَكِّر بداهةً .. داخل هذه الفقاعة الواسعة الضيقة، عليها أن تطبخ، وللطبخ ملحقات. ثم الجلي، والكنس، والغسيل، والتنظيف، والطي، الكوي .. إلخ. أي أن تبقي أفراد العائلة على قيد الحياة.
ومع أنّ لا أحد يعرف خبايا الأزواج غير الأزواج أنفسهم، إلّا أنّه يسهل التكهّن بأنّ حالةً عنفيةً تطاول جسد المرأة وحرمته، وسط هذا الرجوع المفاجئ، المشرَّع على التوتّر الدائم، والمضيّق لحدود الخارج إلى أقصاها. بلغت ما كان لا يمكن للنساء أن يتصوّرنه في لحظات انطلاقتهن. رغم كلّ التعب واللهاث. رغم التقصير في الداخل، وربما في الخارج أيضاً.
الأرقام الصادرة عن المراصد الخاصة بالعنف ضد النساء تسجل ارتفاعاً هائلاً، في دول العالم كافة، لأنواع من العنف ضد النساء: القتل، الاغتصاب، الضرب المبرّح، الابتزاز النفسي
والأرقام الصادرة عن المراصد الخاصة بالعنف ضد النساء تسجل ارتفاعاً هائلاً، في دول العالم كافة، لأنواع من العنف ضد النساء: القتل، الاغتصاب، الضرب المبرّح، الابتزاز النفسي. تليها أرقام لا تقلّ ضخامةً عن طلبات الطلاق، الصادرة عن النساء، بغالبيتها العظمى. المهم أنّ الوباء جمّد واحدةً من حركات التاريخ المعاصر، كانت تُعتبر "حتميةً" لدى رائداته، فضلاً عن رواده الآخذين بالتكاثر. ليس "حتمية" وحسب، إنّما باتَ خروج النساء ومشاركتهن ومساواتهن... إلخ. من صميم الأسس المعتمدة لأيّ لسان عاقل، فاهم "روح" هذا الزمن، "مصيب سياسياً". قضية يُلعب عليها، أيضاً، ولغة خشبية يعتمدها الاستبداد والديمقراطية في آن. جاء الوباء وكبَحها.
والتفكير الآن بما بعد الوباء. يبقى من يتفاءل، ويقول إنّ كلّ شيء سوف يعود كما كان، وإنّ الانطلاقة ستتجدّد، بعد سابقة الخطوات الاضطرارية إلى الوراء. هذا المأمول فيه شيء من الاستخفاف بالأنياب التي كشّرت عنها أزمة الوباء، باستطالتها، بالسنوات الآتية من بعدها. بعد خروج ذئابٍ جديدةٍ من عرينها، بعد صعود نوعٍ من التشفّي المضمر بالنساء، والشماتة بالإغلاق عليهن مجدّداً. بعد عامين، وبما أكثر، من الاستنزاف الاقتصادي الصحي النفسي... بعدما استحكمت السلطات بأنواعها، عسكرية، تكنولوجية، مخابراتية، سياسية. والأخيرة هي الأضعف من بين الثلاث، وإن تشاركت معها بالغنيمة.
فقط للمقارنة، مثلاً نقيضاً: الحربان العالميتان، الأولى والثانية، منحتا للأوروبيات دفعتين لانطلاقتهن، بإدخالهن سوق العمل، وبأعداد مهيبة، بعدما فقدَ ملايين الرجال حياتهم في الحربين. الآن، الوصف أعلاه لحالة المرأة العالقة في فخ شدّها إلى الوراء، هو وصفٌ "متوسّطي". أي أنّه ينطبق على متوسّط نساء العالم. على متوسّط طبقاته وجنسياته. يطاول الملايين، وربما أكثر من مليار امرأة.
أما عن حالنا في لبنان، فالفخّ معطوفٌ على إعصار جهنمي. إعصار من النوع الأمني، الطبقي، القيمي، المؤسساتي... كلّ ما يمكن أن يخطر في بالك من نكَبات. تقف اللبنانية في أدنى سلّم "المتوسّط العالمي" هذا. لا تضاهيها بؤساً، بل تزيد، سوى المرأة السورية، اللاجئة خصوصاً في لبنان، بلد "ما خلّونا نشتغل"...
تقف اللبنانية في أدنى سلّم "المتوسّط العالمي". لا تضاهيها بؤساً، بل تزيد، سوى المرأة السورية، اللاجئة خصوصاً في لبنان
أضِف إلى الحالة الموصوفة أعلاه أنّ اللبنانية التي تدير ليل نهار نظاماً مكبّلاً من اليوميات، حتى لو بقيت، هي وزوجها، في عمليهما، عليها أن تخوض معارك الكهرباء، الماء، التلوّث، الطعام، الأمن... وفوق ذلك كله، تدهور معيشتها، فهي وزوجها لم يعودا يقبضان أكثر من مائة دولار. والمدرسة طردت الأولاد، بعدما عجزت تلك المرأة عن دفع الأقساط. والخبز، واللحمة، والخضار، ورائحة الدواليب المحترقة... ودوَران من الفجر إلى النجْر. ومستقبل أكثر غموضاً من ذاك الذي صنعه الوباء. والباقي معطّل، بعد الكهرباء والماء: المؤسسات، القوانين، والدستور. آخر لبناني متّهم بقتل زوجته منذ شهرين، يتجوّل حرّأً في أحياء بيروت، يتكلّم مع أهله وأصدقائه، يظهر على الشاشة مدافعاً عن نفسه من تهمة القتل، مع أنّ الدلائل تتهمه، فهو على الأقل متّهم، لكنه يتمكّن من عبور المطار، من دون "مشاكل"، هارباً إلى تركيا.
علينا الاستعانة بقليل من الخيال، والقصص الحيّة، لتحضر أمامنا المرأة اللبنانية، مثل عزيز قومٍ ذلَ... وعزّ نسبي، كان. هي تلك المرأة تحديداً التي تستحق الاحتفاء في يوم المرأة العالمي. تلك المتدحْرجة نحو الأسفل، تقاوم الهبوط بكلّ أنفاسها. بدَل ذلك: احتفاء افتراضي تديره السيدة وزيرة الإعلام. بالكلمات إياها، ثم إعلاميات يتكلّمن عن "إنجازاتهن". احتفاء لم يلحظه كثيرون، لأنّ القناة الحكومية وحدها غطّته، هي المعروفة بقلة جاذبيتها. لكن أيضاً: هذه الندوة اختفت تماماً خلف طلّتين لشخصيتَين نسائيتَين، أحدثتا ضجيجاً وردوداً حامية و"سجالاً". الأولى: برلمانية مستقيلة تحسب نفسها على الثورة، تظهر في برنامج يديره إعلاميٌّ، معروفٌ بتلميحاته الجنسية، القريبة من البذاءة. وإلى جانبها نائب عونيٌّ نموذجي، يغْمز ويلْمز لها بالكلام، وما دون العبارات، وكلها جنسية منحلّة. ولا تتردد النائبة بالرّد عليه، تعلق الخِناقة، الجذّابة دائماً. الثانية: طبيبة متخصّصة بالصحة الجنسية، مشهورة جداً، لها شرائط "يوتيوب" على الشبكة، تشاهدها أعداد غفيرة. تظهر في برنامجين، فضائحي والآخر تهريجي. تشرح القليل مما تُسأل عنه، فيوجه لها "محاوروها" عباراتٍ جنسيةً واتهامات بالإغراء الجنسي، شبيهة بواقعة النائبة صاحبة الطلّة الأولى. من بعده، مناوشات وردود تويترية بين مقدمَيّ البرامج والطبيبة. شجار آخر، لا يقلّ جاذبية.
لا أحد يعرف خبايا الأزواج غير الأزواج أنفسهم، إلّا أنّه يسهل التكهّن بأنّ حالةً عنفيةً تطاول جسد المرأة وحرمته
والاثنتان، الطبيبة والنائبة، منخرطتان في سجالٍ مع خصومهما. وكلمتهما المنفردة، التعويذة التي تدور حولها كلّ الكلمات أنّ أولئك الرجال "ذكوريون". كأنهما اكتشفتا الآن. كأنّ النائبة لم تتعرّض سابقاً للبذاءات نفسها على ألسنة محاوريها أو خصومها. كأنّ الاثنتين، النائبة والطبيبة، "لا تعرفان" أنّ المهرّج والفضائحي والسفيه لا يبغون إلا "الريتينغ"، أعلى المشاهدات، والبذءاةٌ واحدةٌ من شروطه.
هذا أبرز ما طلعَ على المسرح التلفزيوني: احتفاء بالمرأة بنشيد "الأنتي ذكورية" بألسنة مشهورة. وتكريس مفردة "ذكورية" لفهم واقع النساء كما يُراد له... وبالأحرى، بصفته واحدةً من المفردات المفتاحية لتشغيل آلة الشهرة. شهرة الشهيرات، العالمات أنّهن سوف يتعرّضن لعباراتٍ ذكورية. لكنّهن، بكلّ "جرأة" يخُضن غمار التعرّض، من أجل إعادة تدوير "الذكورية" و"الذكوري"، بالخناقات المعدّة مسبقاً، وبأسخف الانتصارات: أي الشهرة فوق الشهرة.
تستحقّ اللبنانية اليوم احتفاء بمقاومتها للسقوط في الأعمق، وبحفاظها على أولى درجات الحياة. تستحقّ أن تتمنّى أنّ ما بعد الوباء سوف تكون جاهزة لخوض غمار أصعب. أن تُمَدّ لها يد الذوق والإحساس. يكفي الذوق والإحساس.