ياسمينة خضرا أنموذج عن المثقّف المستلب
قدِم الرّوائي الجزائري ياسمينة خضرا، أخيرا، إلى الجزائر لترويج روايته "الخيّرون"، المنتظر أن تُنشر في الشهر المقبل (أغسطس/ آب) باللُّغة الفرنسية في باريس. إلى هنا، الخبر عادي لا يحتمل التّعليق، لولا الكلمات والتّصريحات التّي أطلقها مضخّما الأنا، كما جرت العادة، بالنّسبة له، إضافة إلى آراء ومواقف زادت من حنق الجزائريين عليه.
بداية، لا تقدّم هذه المقالة عملا نقديا لرّوايات ياسمينة خضرا، فالنُّقاد الّذين فعلوا هذا توصّلوا إلى أنّ رواياته سردية من دون عمق، ولم تتعدّ مواضيعها إعادة سردية المركّب الصّناعي العسكري الأميركي والغربي (الفرنسي، بصفة خاصّة) لظاهرة الإرهاب، حيث تتبّعها الكاتب في كلّ المناطق التّي أُشيع أنّها سادت فيها الظّاهرة، على غرار بغداد وكابول وفلسطين، في إشارة مبطّنة إلى أنّ الإرهاب صناعة مرتبطة بالبيئة الشّرق أوسطية والتّركيبة الفكرية/ الدّينية/ الاجتماعية المنشئة للظّاهرة، وفق تلك الرّوايات.
المهم هنا علاقة تلك الرّوايات، أو لنقل، على الأقل، تلك التّي كانت لها صلة بموضوع خاصّ بسردية لتاريخ البلاد، وأعني الرواية ذات العنوان المثير "بماذا يدين النهار لليل"، في ترجمة للعنوان الذي صدرت به الرّواية، وحاول كثيرون التّلاعب به، لأن تلك الترجمة تحاول إخفاء إيحاء صاحب القصة بالكلمتين "اللّيل" و"النّهار"، ذلك أن الليل هو ظلام العهد الاستيطاني الذي عاشت في ظله الجزائر مدّة فاقت 130 سنة، وكان المجاهد المرحوم فرحات عبّاس أوّل من أطلق عليه تلك التّسمية في كتاب له نشره بعنوان "اللّيل الاستيطاني".
لم تفعل روايات ياسمينة خضرا، إلا إعادة سردية المركّب الصّناعي العسكري الأميركي والغربي (الفرنسي، بصفة خاصّة) لظاهرة الإرهاب
أمّا النّهار، برمزية النّور، فهو إشارة إلى الاستقلال الذّي نالته الجزائر بعد دفعها ضريبة دم، لا زلنا نؤكّدها، بالأرقام والشّهادات/ الوثائق، تراوحت بين 10 و12 مليونا (إذا اعتمدنا أن عدد سكّان الجزائر كان بين ثلاثة وسبعة ملايين في 1830، العام الذي دخلت فرنسا فيه الجزائر، أمّا إذا اعتمدنا رقم حمدان خوجة، من أعيان الجزائر، في تلك الفترة، في كتابه "مرآة الجزائر (أي عشرة ملايين، فانّ عدد الشُّهداء قد يفوق 12 مليونا، بكلّ تأكيد). وبالتالي، فإن مقابلة النّقيضين في عمل روائي مع اعتماد العنوان المستفزّ باستخدام عبارة "ماذا يدين" ذلك النّهار للّيل، فانّ الأمر يتعلّق، أساسا، بتمجيد اللّيل وادّعاء أنّ له فضل على النهار، بل، في قراءة مرتبطة بالفترة التي صدرت فيها الرّواية، فانّ الأمر يتعلّق بتمجيد الفترة الاستيطانية، وزعم إنّها كانت خيرا على الجزائر، حيث لا دولة قبل الاستيطان الفرنسي، ولا أيّة مظاهر للحضارة، وكأنّ الأمر تماه مع قانون تمجيد الاستعمار الذي كانت السُّلطات الفرنسية قد أقرّته في العام 2004، ويتحدّث، في مادّته الرابعة، بوجه خاصّ، عن فضل الليل الاستيطاني على نهار الاستقلال، وأنّ رواية خضرا إنّما جاءت لتُجسّد ذلك القانون بلغة المستعمر، وبسرد لذلك الفضل على أكثر من صعيد.
لم يدافع خضرا عن نفسه عندما أُثيرت قضيّة عنوان الرواية ومضمونها، ذلك أنّ الفترة كانت مشوّشة على المستوى الثقافي، إذ عمدت وزارة الثقافة، آنذاك، إلى تمويل تحويل تلك الرّواية إلى عمل سينمائي أخرجته يمينة رقيقي، وهي مخرجة فرنسية من أصول جزائرية، وعُرض الفيلم في الجزائر العاصمة وكأنّه إنجاز فنّي، في حين أنّه يحمل كلّ تلك المضامين الإيحائية بتمجيد الاستيطان الفرنسي، وبالتّوازي مع سوداوية المواقف الثّقافية ذات البعد الوطني، كان البرلمان الجزائري (الغرفة السُّفلى) يماطل في اعتماد مشروع قانون يجرّم الاستعمار الفرنسي، وكأن أطراف اللُّعبة القذرة، بتجاهل تاريخ الجزائر، واعتماد ذلك المنطق الممجد لفرنسا ورمزية وجودها الإجرامي في الجزائر، مصرّة على إكمال السّردية تلك إلى آخر المسار الذي أُريد له أن يصل إليه، وهو غرس، في أذهان الأجيال الجديدة، قراءة جديدة للوجود الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، أنه حملة حضارية بتداعياتٍ قد يكون الجزء الأكبر منها جيّدا وقابلا للتّمجيد مع وقوع أخطاء عابرة لا تفسد لود تلك العلاقة الحميمية قضية.
عمد إلى نشر صور له مع سفير فرنسا بمناسبة دعوة له على الغذاء في مبنى السّفارة الفرنسية في الجزائر
ليست الإشكالية في ما أقدم عليه ياسمينة خضرا، وأصرّ على تبنّيه، باعتباره موقفا من مثقّف مستلب، بل الأمر تعدّاه إلى الإصرار على تعمّد المساس بتلك الذّاكرة الجماعية الجزائرية إزاء عدوان فرنسا، حيث عمد، في جولته أخيرا، إلى نشر صور له مع سفير فرنسا بمناسبة دعوة له على الغذاء في مبنى السّفارة الفرنسية في الجزائر، وهو أمر يقع تحت بند الخصوصية، لولا أنّه تزامن مع ستينية الاستقلال، وفرضية أنّ الفترة هي فترة انسجام وطني إزاء كل ما يتعلّق بفرنسا، وخصوصا أنّ ملّف تصالح الذّاكرة ما فتئ يتعقّد بسبب النّفاق الفرنسي. وبزعم أنّ الوضع السياسي الفرنسي، الآن، لا يسمح بأيّ تقدّم، فالتّوازنات السّياسية الفرنسية تسير في اتّجاه فرض تمجيد الاستيطان، وليس ثلاثية الاعتراف والاعتذار ثم التّعويض.
تجدر الإشارة إلى أن زيارة خضرا السفارة الفرنسية ذات أبعاد، فثمّة مسار تسويقي لروايته، يجب أن يكون تحت راية الدولة التي ستصدر روايته بلغتها وفي عاصمتها، وهو مسار مشروع لو لم يتزامن مع ستينية الاستقلال، ومع مضامين تصريحاته في جولته الجزائرية، حيث إنه زعم ريادته الرواية الجزائرية، وأنه من أدخل الأدب الجزائري العالمية، بل ادعى أنه الروائي الأكبر، وأن الآخرين إنما هم صغار كثيرا، وفق تعبيره، متناسيا أن الجيل الذي تحدّث عنه جيل كبار رُشّح، على الأقلّ، اثنان منهم، محمّد ديب وآسيا جبار، لجائزة نوبل للأدب، وأنّ من تحدّث عنهم كبار على غرار مولود معمري، كاتب ياسين، رشيد ميموني، مولود فرعون، أحلام مستغانمي، الطاهر وطار، وكلُّهم دخل تلك العالمية، ولم يكن له الدّور التآمري ضدّ بلاده، ولا المواقف الثّقافية المُستلبة مع عدُّو الأمس، اليوم وغدا، فرنسا، وفق مقولة البشير الإبراهيمي، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
للمثقّف واجب وطني يقوم به لتوعية المجتمع، باعتبار أنّه من النّخبة، ودوره يوجب عليه ذلك، ونقد مواقف خضرا أصبح واجبا وطنيا
لنعد، هنا، إلى محمّد ديب وآسيا جبّار، وكيف أنّهما، بالرّغم من مستويات أعمالهما الأدبية، العالمية وفق النّقاد الأدباء، لم ينالا جائزة نوبل، لنؤكد على أن روايات ديب وجبار وكتاباتهما كانت سردية لتسويد الليل الاستيطاني الفرنسي في الجزائر. ولذلك جرى استخدام الثّقل الفرنسي، ثقافيا، في أكاديمية نوبل، لمنعهما من اعتلاء منصّة التتويج بأكبر جائزة أدبية عالمية. وعلى الرغم من ذلك كله، لم تستطع فرنسا منع ديب وجبّار وغيرهما من الوصول إلى العالمية، بل لم تقدر على منع جبار من عضوية أقدم أكاديمية للغة الفرنسية، حيث أصبحت عضوا فيها (أنشئت الأكاديمية الفرنسية في 1664) إلى حين وفاتها، رحمها الله.
وفي إشارة إلى عمل خضرا المعادي لتاريخ بلاده، نذكّر بتعيينه مسؤولا (مديرا) للمركز الثقافي الجزائري في باريس، وبأنه، طول فترة مسؤوليته، لم يقم بنشاط ثقافي يمكن من خلاله تسليط الضوء على تاريخ الجزائر، كما لم ينظّم ندوات، ملتقيات أو لقاءات يتصدر التاريخ موضوعاتها، بل لم ينشر أية أعمال أدبية تشير، من قريب أو من بعيد، إلى تلك الموضوعات الشائكة، وكأن لسان حاله يقول "ليس لوحده بل كل من كانت له مسؤولية ذلك المركز"، لنبقي العلاقة حميمية مع فرنسا التي ستدخلنا العالمية، وربما ينالون نصيبا من تلك الجوائز العالمية، وهي خدمات يقوم بها، رفقة غيره من المثقفين المستلبين، وفي مقدمتهم الثنائي كمال داود وبوعلام صنصال، الروائيان الآخران المستلبان، لعلهم يفوزون برضا فرنسا، ويُتوّجون بجائزة ما، وعين خضرا، طبعا، هنا، على جائزة نوبل بالتّناسب مع رفعه سقف التّعاطي مع فرنسا، وخصوصا في فترة رمزية ستّينية الاستقلال الجزائري.
ولولا أنّ الموقف ثقافي بامتياز، لذهبت هذه المقالة إلى أبعد ممّا ذكرت. ولكن، من وحي قراءة كل أعمال ذلك الروائي المستلب، وأعمال هؤلاء، طبعا، ومن وحي أنّ الموقف الثّقافي والوطنية صنوان يجتمعان ولا يتفرّقان، البتة، ومن وحي أنّ للمثقّف واجبا وطنيا يقوم به لتوعية المجتمع، باعتبار أنّه من النّخبة، ودوره يوجب عليه ذلك، فانّ نقد مواقف خضرا أصبح واجبا وطنيا بامتياز، أقول وأكرّر.. لولا سوداوية اللّيل الاستيطاني وظلماته، لما عرفنا فضل نهار الاستقلال، في تناغم مع أغنية كاردينال الأغنية الشّعبية في الجزائر الحاج العنقى، رحمه الله، الذي قال في 1962، باللّهجة الجزائرية، "الحمد لله ما بقاش استعمار في بلادنا" (الحمد لله لم يبق استعمار في بلادنا).