وقائع ومشاهد برسم المونديال
(1)
تقول الروائية الفرنسية صاحبة جائزة نوبل، آني إرنو، إن "ذاكرتنا تحتفظ بالمشاهد والوقائع التي نعيشها أو نمرّ بها، لكن رياح الزمن هي التي تقرّر ما يستحقّ أن نستدعيه منها". .. ربما يبدو الكاتب، والفنان أيضا، أكثر من غيرهما معنيين بهذه المقولة، إذ لهما حساسية النظر إلى المشاهد والوقائع على غير ما اعتاد الآخرون وألفوه، وثمّة ما يجعلهما يستدعيان بعض ما يلفت نظرهما أو يثير عندهما نوعا من الشجن أو الارتياح. وفي الحالين، ينقل الكاتب أو الفنان ما يشجنه أو يريحه الى متلقيه.
في مونديال قطر وعنه، يمكن للكاتب أن يستدعي عديد مشاهد وصور لفتت الانتباه، وحفظتها الذاكرة، منها أن سيدة ألمانية اسمها نانسي فيزر، مهنتها المعلنة وزيرة الداخلية في بلدها، أي أنها مسؤولة عن أمن المجتمع ورعاية أبنائه، هوايتها، على ما يبدو، استفزاز الآخرين بارتكاب أعمال وقحة، بقصد التباهي ولفت الأنظار إليها، وهو نوعٌ من السلوك البشري يقول علماء النفس إنه عائد لمتغيّر جيني يولَد عند بعض البشر، ويمنح صاحبَه قدرا من القوة المنفلتة، ليكون وقحا في ظرفٍ ما. هل يكفي هذا لكي نفهم ما دفع السيدة المذكورة أن تخطّط للدخول إلى ملعب مونديال قطر، وهي تخفي، عن عمدٍ وسبق إصرار، ومستغلّة صفتها الدبلوماسية، شارة المثليين تحت جاكتتها الأنيقة، ثم لا تلبث عندما تكون في مقصورة الضيافة أن تنزع جاكتتها حتى تكشف للملأ عن الشارة المرفوضة ليس لدى القطريين فحسب، إنما لدى مليارات من البشر في هذا الكون؟
تكشف فيزر، بتصرّفها هذا، عن سلوكٍ متعصّبٍ نابعٍ من نظرةٍ متعاليةٍ وشعور زائف بالتفوّق، وهي ربما لا تعلم أنها سوف تغرق وحدها في بحر الكراهية، وقديما كان الحكيم جلال الدين الرومي قد أبلغنا أن "كل من يبدي الوقاحة سوف يغرق في بحر كراهيته"، إلا أن ما كان جميلا حقا أن يقابل ذلك شباب قطر وبناتها بارتداء الكوفية الفلسطينية تعبيرا عن استهجانهم هذا التصرف، ولكي تدرك الوزيرة مبلغ الخطيئة التي ارتكبتها، وهي العارفة مقدّما بما يمكن أن يجرّه عليها وعلى بلادها ما خطّطت لفعله.
كانت فلسطين حاضرة في مونديال قطر، وبدت إسرائيل منبوذة ومكروهة
هل تسمح حكومات الغرب، حكومة ألمانيا على وجه الخصوص، بدخول وزير عربي إلى فعالية دولية تعقد هناك وهو يرتدي الكوفية الفلسطينية مثلا؟
(2)
انتفاضة نساء إيران دخلت مونديال قطر على نحو غير متوقّع. أحجم اللاعبون الإيرانيون عن ترديدهم النشيد الوطني لبلادهم قبل مباراتهم مع الفريق الإنكليزي. كان صمتهم دلالة غضب، قال كابتن الفريق، إحسان حاج صفي، إن صمتهم هو تعبير عن تعاطفهم مع الحراك الشعبي الذي يخوضه أولئك الناس الذين يعانون في مدن إيران، فيما كتبت صحيفة كيهان، التابعة لمكتب المرشد علي خامنئي، أن اللاعبين "عديمو الشرف ويفتقرون إلى الغيرة الوطنية". أطلق مئات المشجّعين الإيرانيين الذين حضروا المونديال صيحات الاستهجان عند عزف النشيد الوطني، رفع بعضهم صور الفتاة مهسا أميني التي توفيت في مركز احتجازها في طهران، كما رفعوا لافتات حملت شعار الحراك الاحتجاجي "نساء، حياة، حرية".
إلى هنا الأمر يبدو طبيعيا، لكن الغريب أن صحيفة عربية (هل هي عربية حقا؟) أنكرت أن يكون رفض المنتخب الإيراني أداء نشيد بلادهم موقف تضامن مع الاحتجاجات، وزعمت أنهم "كانوا مشغولين بتوجيه رسائل فلم يؤدّوا ما هو مطلوب منهم"!. الصحيفة نفسها برّرت خسارة إيران أمام إنكلترا بأن أعضاء الفريق "كانوا مشغولين ذهنيا بأمور خارج الملعب"!
(3)
هل كان ينبغي أن تستضيف قطر المونديال كي يعرف الإسرائيليون أن العرب يرفضون التطبيع والمصالحة معهم، وأية أوهام كانت في ذهن رازا شاشنيك وعوز معلم المحرّريْن في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، وسواهما من رجال الإعلام الإسرائيليين، عندما جاؤوا إلى الدوحة، من قال لهم إن القطريين والعرب سيقابلونهم بالأحضان؟ وكيف اكتشفوا الحقيقة التي ربما تكون اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها بعض الدول العربية قد حجبتها عنهم، وجعلتهم يتصوّرون أن أوراق الاتفاقيات الصفراء كافية لنزع الحقد العربي المقدّس من عقول العرب وقلوبهم بعد أن أصبح الدم العربي وساما وشارة؟
يكفي مونديال قطر أنه نقل العرب إلى العالمية في مرحلة تاريخية فارقة
هكذا كانت فلسطين حاضرة في مونديال قطر، وهكذا بدت إسرائيل منبوذة ومكروهة، وعرف العالم كله أن العرب لن يتصالحوا مع قاتليهم، ولو قيل ما قيل من كلمات السلام، ويوما سيولد الحق الفلسطيني من رحم المستحيل.
(4)
.. أما بعد، فحسبُ مونديال قطر أنه نقل العرب إلى العالمية في مرحلة تاريخية فارقة، وهذا يكفي وحده كي يتوقف المرجفون عن توجيه سهامهم إلى هذا البلد الصغير الكبير.. قطر.