وسائل التواصل وتدهور القدرات العقلية
كلما كان الإنسان أكثر اجتماعية كان أقل عبقريةً وأكثر ابتذالا"؛ هذا ما قاله علي الوردي، ونحتاج جميعا لتذكّره "للسيطرة" على تعاملنا مع وسائل التواصل.. إذا ضغط طفل عليك بإصبعه الصغير، وتجاهلته "لضعف" إصبعه ولقلة تأثيره، وعندما يواصل الضغط ستنفجر غضبا؛ هذا ما يفعله بعقولنا إدمان التواصل.
لا نطالب بالابتعاد عنها نهائيا؛ فهذا غير واقعي وانقطاع غير مبرّر عما يحدث في المجتمع "وحرمان" من فوائدها؛ ننبّه فقط إلى الأخطار التالية لمنعها من "التسلّل" إلى عقولنا.. نبدأ بقراءة الشكاوى من أمور عادية تصيب القارئ بالضجر، وقد تجعله يشعر بأن حياته سلسلة كوارث بالمقارنة بما يقرأه ويشعر بالرثاء للنفس وهو لعنة عقلية بامتياز.
تورث متابعة المنشورات السلبية القلق وتوقع الأسوأ، وهي "لعنة" تحرم من رؤية كيفية انتزاع أفضل ما يمكننا من الواقع والفرح بذلك؛ والفرح يهدئ العقل ويزيل الشوائب منه ويحسّن الصحة النفسية التي تحسّن صحة الجسد، أما الكآبة فتغلق أبواب العقل وتجعله قنبلةً موقوتةً قد تنفجر لأتفه الأسباب، وتضرّ بالصحتين النفسية والجسدية.
من الخطأ الشائع التعامل مع السلبيات التي تنشرها هذه الوسائل باستهانةٍ أو بمبالغة؛ ففي الحالتين لا نجيد قراءتها مما يعطينا معلوماتٍ غير دقيقة، وبالتالي نخطئ بالفهم وبالتفكير وبالتصرّف، أو امتصاص الطاقات السلبية مما يضرّنا عقليًا ونفسيًا وصحيًا، والتوقف الطويل عند التغييرات السيئة بالمجتمع وزرع التشاؤم بالعقول، ونكون كمن يتوقع التعثر عند السير وسيجد ما توقعه أو الانعزال عن المجتمع ورفضه، وهو اختيارٌ مؤذٍ أيضا؛ والصواب أن في كل زمان ثمة السيئ والجيد، وفي وسعنا وضع "سواتر" عقلية لمنع الضرر عنا والتنبه إلى إزالته أولا بأول. أما المبالغات بنشر المشكلات الشخصية والأسرية أو حوادث التحرّش، فتسرق الإحساس بالأمان الذي هو أوكسجين العقل، فالخوف المبالغ خطر يهدّد من "يسمح" له بالمكوث.
يتسبّب الدخول في جدال وإرهاق العقل لإثبات أننا على حق وكراهية الاعتراف بالخطأ، بالتصلب العقلي
نتوقف عند منشورات الشحن الطائفي، وتخوين من يخالفوننا الرأي وتكفيرهم، أو وصفهم بالجهل وبأسوأ الصفات، والمزايدات والمناكفات التي إن لم تتورّط بالاشتراك بها؛ فسيصعب عليك "منع" نفسك من متابعتها وستسنزفك عقليًا.
نحذّر من الإنشغال بمتابعة تفاصيل تافهة أو غير مفيدة للشخص، وملء العقل بها "وتعطيله" عما يفيده وينميه، فضلا عن الأسئلة الغريبة على المنتديات ونشر مشكلات كاذبة؛ "تعطّل" القدرة تدريجيا على التمييز بين الصادق والمزيف، وتخصم من الطاقات العقلية، والعقل إن لم يتحسّن سيتراجع؛ فلا ثبات لأي حالٍ بالحياة.
زادت وسائل التواصل من لعنة رغبة بعضهم بالوجود دائما، وأن يراه الجميع دوما عالِما بكل الأمور، يدلي بدلوه بكل شيء؛ وتُوقعه بما يقلّل من شأنه ولو بعد حين؛ فلا أحد يستطيع الإدلاء بآراء جيدة في كل الأمور. إدمان قراءة التعليقات، وكثير منها يحتوي على مغالطات أو أكاذيب، وعلى تفكير يخاصم أي منطق، يعطي غالبا صورة مشوهة عن الحياة وعن الواقع، وينهك العقل باتخاذ الرفض أو التعاطف مع مواقف كثيرة، وإصدار الأحكام على الناس وفقا لظاهر التصرفات. ويؤثر قضاء أوقات طويلة بلا حركة جسدية وقلة الحركة بالسلب على الحالة النفسية، ومن ثم الذهنية، مع الاستسلام للكسل وتراجع النشاط، ومن ثم إضعاف الإرادة وتراجع الرغبة بالإنجازات، وصولا إلى رؤيتها بلا عائد مجزٍ أو عبئًا يجب الخلاص منه والفرار أيضا. أما الدخول في جدال وإرهاق العقل لإثبات أننا على حق وكراهية الاعتراف بالخطأ فيتسبب بالتصلب العقلي، وكذلك متابعة من اختلفنا معه لتصيّد زلاته "وعقابه" عليها انتقاما لمضايقته لنا عند الاختلاف معه، ويؤدي إلى ضيق الأفق بسبب الانحيازات.
إعجاب بعضهم بالكلام العادي الذي يكتب أحدهم ليحصد "اللايكات" يجعله يتراجع عقليًا ويتجاهل أن معظم "اللايكات" مجاملات
يحسن التنبيه إلى خطر اللهاث لمتابعة كل الجديد في الأخبار "والترند"؛ ومعظمها لا يهمنا ولا تفيدنا معرفته، فنتوهم أنها تعبر عن المجتمع والرؤية "الزائفة" للواقع من خلال شبكات التواصل، وما تحرص اللجان الإلكترونية التابعة للشخصيات العامة، أو لبعض الاتجاهات، على ترويجه، والانعزال تدريجيا وببطء، ومن دون أن نشعر بالواقع؛ فتتآكل قدراتنا على التعامل معه بأفضل ما يمكننا مما يعرّضنا لصدماتٍ لا مفرّ منها تؤثر بالسلب على ثقتنا بعقولنا، ولا شيء يقلّل القدرات العقلية كتناقص الثقة بها، وكنا في غنىً عن ذلك، لو وضعنا هذه "الترندات" ووسائل التواصل في حجمها الطبيعي.
نصل إلى خطر التأثر بثقافة القطيع ونقل الإشاعات وتصديق الأكاذيب وتكوين الآراء بناءً على ثقافة القطيع أو الدفاع عما يُنشر بغزارة على وسائل التواصل؛ ما قد يوحي بأنه مرآة للرأي العام فيما الواقع يؤكد العكس؛ فبعضهم يتعمّد تحريك العقول، ومن ثم الطاقات والآراء، كالعرائس المتحرّكة، وكثيرون لا ينتبهون، ويرفضون من ينبههم لتغير أفكارهم وتصرّفاتهم.
لا شيء يقتل العقل كالفضول في الأمور غير المفيدة، كمتابعة ماذا يفعل الآخرون والإعلانات التي تظهر ليتابعها بعضهم؛ فيضيع الوقت وتتسلل الطاقات بلا سيطرة منهم وتتراجع قدراتهم على فعل ما يفيدهم؛ ويقعون تحت أمرين يتنافسان بالسوء: الأول جلد الذات واتهامها بالضعف، والآخر اختيار خذلان النفس وتجاهل التراجع حتى يصبح عادة، والأذكى المسارعة بالقفز بعيدا عنه، وصنع ما يليق بنا بالوقت وبالعقل؛ حتى لا نجد أنفسنا ننشغل بمواقف لا تستحق أن نبحث عن ردود أفعال الناس عليها، ونستغرب من الإلحاح على نشر أمور تافهة أو حوادث مبالغ في كتابتها لتبدو مأساوية أكثر مما هي في الواقع أو نتضايق أو يصيبنا التوتر. وذلك كله كالأتربة، تتسلّل إلينا وتتسبّب في إجهادنا نفسيًا وذهنيًا، وكلما تأخرنا بإزالتها تسبّبت بالحساسية المزمنة ومنحناها الإقامة. إعجاب بعضهم بالكلام العادي الذي يكتب أحدهم ليحصد "اللايكات" يجعله يتراجع عقليًا ويتجاهل أن معظم "اللايكات" مجاملات، وبعض آخر يبحث عما يجلب له التسلية والبعد عن الواقع ولو كان بلا قيمة.
من الخطأ "الشائع"، مع الأسف، تحويل وسائل التواصل إلى هواية أو وسيلة "أساسية" للتسلية، ولشغل الوقت بعيدا عن العمل والالتزامات الأسرية وغيرها
ومن الإضرار بالعقل متابعة أي شيء يُثبت صحة كلامنا أو مواقفنا، ولو كان غير موثوق به، ودعمه بكلام قوي ولا يناسبه، كبعض الحكم أو المأثورات الدينية، وقد يقود إلى "الهوس" بأننا على حق دوما، ولا أحد كذلك، ما يصيب العقل بضيق الأفق والتصلّب الفكري. ويعرّض صاحبه للدخول في معارك لإثبات أنه على حق؛ فيفقده بعض علاقاته الإنسانية، والأولى فتح نوافذ العقل للمراجعة، وللتأكد من صحة مواقفنا بلا استنفار يكلفنا الطاقات بلا جدوى. وترهق كثرة المتابعات العقل وتشتت الانتباه وتقلّل التركيز فيما يفيد الإنسان بعد ان امتلأ عقله بما لا يهمه ولا يضيف إليه.
تعد المقارنة بالأقل، أسوأ عدو للعقل، وتدفعه إلى الزهو ثم الغرور، أو إلى الاكتفاء بما حقق. والعقل إن لم يتطور يتراجع، فلا شيء يبقى في مكانه في الحياة، فإما إلى الأمام أو إلى الخلف، وتسيء لأعمارنا قراءة القصص الكاذبة التي تخدّر العقول، وتزعم، بمبالغات بشعة؛ صعوبة حياة من يأخذ حق غيره، وما يتبع ذلك من دفع أصحاب الحقوق إلى التراخي عن المطالبة بحقوقهم وترك سارقيهم للمعاناة! وقد وصل الأمر ببعضهم إلى درجة الهوس بكتابة المنشورات "وانتظار" التفاعل والتعليقات، وهدّدوا بمقاطعة من لا يتفاعلون معهم، و"توعّد" آخرون من لا يتفاعل معهم بالحظر.
من الخطأ "الشائع"، مع الأسف، تحويل وسائل التواصل إلى هواية أو وسيلة "أساسية" للتسلية، ولشغل الوقت بعيدا عن العمل والالتزامات الأسرية وغيرها؛ ويجب التنبه، وتخصيص وقتٍ لا نتجاوزه؛ وحتى لا نعود إلى الإدمان فلنفعل شيئًا مختلفًا في الوقت الذي "كنا" نخصصه لوسائل التواصل كمارسة هواية نحبها، ونذكّر أنفسنا بخسائرنا منها، وبأننا نستحق ليس إيقافها فقط، بل ايضا إسعاد أنفسنا.
لنتذكّر دوما القول البديع لسبينوزا: كلما ازداد العقل علمًا ازداد فهماً لقواه، وازداد مقدرة وسهولة على تحرير نفسه من الأشياء التي لا فائدة منها.