عن التدليس وعشّاقه والضحايا باختيارهم
يرتبط التدليس عند بعضهم بالتنفس؛ فيتنفّسون لمواصلة التدليس وتحسين أحوالهم. وبلغت الثقة الزائدة بالنفس لدى هؤلاء، وبمهاراتهم غير المسبوقة في التدليس، إلى أن يستهينوا بمتابعيهم؛ ويردّدوا أقوالًا ساذجة، يصدقها، للأسف كثيرون "يعشقون" المدّلسين باختيارهم، والعاشق يتْبع معشوقه أينما سار، ويثق بكلامه مهما قال.
العشق هو الحب الزائد حتى يصبح "مرضًا"، والتدليس هو "تعمّد" إظهار الشيء بصورةٍ تخالف حقيقته لخداع الغير. وكأي عاشقٍ لا يرغب في رؤية عيوب من يعشقه ويبرّر خطاياه ويراها مزايا؛ نجد من "يتفانون" في عشق محترفي التدليس، ويرفضون باستماتةٍ رؤية الحقائق التي تتضح "لاهتراء" الأقنعة التي يرتديها المدلّسون، لطول تدليسهم ولانكشاف أمورٍ لا يمكن لمن يحترمون عقولهم تجاهلها؛ ولكنه العشق الزائد والعناد في الاعتراف "بخطيئة" تسليم العقول للمدلّسين.
يجسّد المدلّسون حقيقة أن العاشق يكره الابتعاد عمّن يعشقه ويراه "سببًا" لوجوده في الحياة، ويفعل ما يستطيع ليفوز به؛ فيتفانون في "إبهارنا" بالجديد من التدليس، ولا يملّون ولا يكلّون في خدمته دوما؛ ولا يمكن "لتجارتهم" الاستمرار لولا من "يختارون" بكامل إرادتهم ووعيهم أن يكونوا "ضحايا" لهم. وهناك من يقبلون بالتدليس "باختيارهم"، ويروّجونه بحماسةٍ تتنامى "نكاية" فيمن لا يحبّونهم سياسيًا أو عقائديًا أو لأسبابٍ أخرى، ويتجاهلون أنهم يُطفئون بأيديهم بعض النور في عقولهم وقلوبهم؛ والنور إن لم يزد سيتناقص، وإن تناقَص سيخفُت ولو بعد حين، والأسوأ اعتياد "الظلمة"، حتى يصل الأمر إلى رفض رؤية النور مجدّدًا "والانزعاج" منه. ونحن محاصَرون بالتدليس دائمًا وأبدًا؛ بدءا من الإعلانات التي لا تنقطع على وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات وإعلاميين كثيرين يحفل تاريخهم بالمتناقضات، ويتلخّص رأسمالهم على القدرة "المتنامية" والفجّة على التلوّن وتعدّد الوجوه.
من التدليس المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات تقول إن الفيديوهات الجميلة لا يراها إلا المميزون مثلك
شاهدتُ فيلمًا أميركيا اسمه "You People"؛ أشاد به مثقفون عرب لدعوته إلى القبول بالمختلف عنا ثقافيًا، وكان نموذجًا يصعب تكراره للتدليس "الهوليودي". يحكي عن أسرتين، يهودية بيضاء ومسلمة سوداء، يتعارفان ثم يرغب ابن اليهودي بالزواج من الابنة المسلمة، اختزلوا الاختلافات في هل سيحضر الزفاف حاخام أم إمام؟ ولا مشكلات بين البيض والسود!
وتعمّدوا تجاهل "حقيقة" أن المسلمة لا يجوز لها الزواج بغير المسلم، وأن زيجات كثيرة حدثت منذ عشرات السنين بين البيض والسود.
من التدليس المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات تقول إن الفيديوهات الجميلة لا يراها إلا المميزون مثلك، وهو إعلان مموّل! وكذلك تختلف عناوين الأخبار في بعض المواقع والصحف عن المضمون كثيرا، لجذب أكبر عدد من القرّاء للمشاهدة ولا يهتمون بالمصداقية. وهناك المذيع الذي يصرُخ في المشاهدين يُطالبهم "بالتقشّف"، وهو يرتدي أغلى الماركات الأجنبية، وفي وسع مرتّبه أن ينفق على آلاف المشاهدين الذي يطالبهم بالتقشّف ومراعاة "ظروف" الوطن! وكذلك المذيعة التي "تتعمّد" تضليل النساء، وتصرخ كأنها مسؤولة عن إنقاذ حواء من الوحوش المفترسة (الرجال). وثمّة المذيعة "الأسوأ" التي تمتدح الرجال بفجاجة وسذاجة، وكأنها تحميهم من "توحّش" حواء! وكاتبة حوكمت بتهمة ازدراء الأديان بعد أن اعترضت، في لقاء تليفزيوني، على ذبح الأضاحي، لأن هناك "رجلًا" شاهد رؤية بذبحه ابنه. وظهرت بعد ذلك في برنامج بقناة أميركية، وقالت إنها حوكمت "ظلمًا"، لأنها شاهدت جزّارًا قطع أرجل الأضحية قبل الذبح، وأطفالا يهللون فرحًا. ولذا "فقط" اعترضت على ذبح الأضاحي؛ ولم تعترض على طريقة الذبح، بل على سببه!
مدلّسون "ينهشون" في الوعي والذوق والعقول والقلوب، ومن يلقِ "بنفسه" فريسة سهلة أمامهم فلا يلومنّ إلا نفسه
من التدليس المتكاثر بضراوة اتهام الرجال بكل السوء، بدءا من النرجسية "والتوكسيك" وقهر النساء وكأن النساء ملائكة على الأرض. ومن التدليس "الفج" اتهام جنسٍ بكل النقائص، وتخصيص الجنس الأخر بكل الفضائل؛ ونذكُر قول رجل: أستطيع أن أدفع أي إنسان إلى الجنون؛ قيل: كيف؟ ردّ: بامتداحه ونفاقه كل يوم، فامتداح حواء والنفاق يجعلها "تخاصم العقل ويمنعها من السعي إلى أن تكون أفضل، وكأن ليس بالإمكان ما هو أجمل مما هو كائن؛ ودوما يوجد الأفضل وإن لم نتقدّم إلى الأمام سنتراجع؛ ولا يهتم المدلّسون بنجاح حواء بكل تفاصيل حياتها، ولا يعنيهم أن تكتب تراجعها "بيديها"؛ فكل ما يعنيهم التدليس والسيطرة على وعيها.
من التدليس ما قاله ممثلٌ إن الهجوم الذي تعرض له مسلسله كان من لجان إلكترونية، وإن في الواقع ما هو أسوأ مما جاء في المسلسل الذي أقام فيه البطل علاقة جسدية غير مشروعة أثمرت عن حملٍ مع زوجة أب زوجته، وقد دافعت أسرة المسلسل بهذا المنطق، حيث في الواقع أسوأ مما جاء في مسلسلهم المشبوه؛ وكأن وظيفة الفن نشر قاذورات المجتمع "وتبريرها"، وليس الارتقاء به.
.. كل هؤلاء المدلّسين "ينهشون" في الوعي والذوق والعقول والقلوب، ومن يلقِ "بنفسه" فريسة سهلة أمامهم فلا يلومنّ إلا نفسه. وأكبر مصادر التدليس "تقبع" في هدوء في كتب التاريخ؛ فكما يقال عن حقّ إن التاريخ يكتبه المنتصرون، وكنا نستغرب كيف يجري تدليس التاريخ، حتى شاهدنا بأعيننا من يدلّس بشأن ما حدث في أعوام قليلة مضت عايشناها بأنفسنا وشاركنا بقدر ما في أحداثها، وإذا بنا نرى من يدلّسون علينا ما حدث بثبات انفعالي "رهيب"، ومن دون أي ارتباك، وكأننا كنا "نتوهّم" ما عشناه!!
من التدليس ادّعاء النخبوية وإضفاؤها على النفس مع بعض المريدين والأتباع
يوجد "رعاة" محليون ومن الخارج للمدلّسين؛ فمهمة التدليس "التشويش" على الوعي وفقدان القدرة على التمييز "واختيار" التسليم بما يُقال بلا تفكير أو غربلة لطرد السموم التي "تنتهك" الوعي وتغتاله، ولو بعد حين، فكما قال علي شريعتي: "إنهم يخشون عقلك أن تفهم ولا يخشون جسدك مهما كان قويًا". ومن التدليس ادّعاء النخبوية وإضفاؤها على النفس مع بعض المريدين والأتباع.
لا نطالب بتكذيب كل ما نراه أو نسمعه؛ فقط "التنبّه" وإعمال العقل والتوقف عن النظرية الخاطئة والقاتلة للوعي، تطبيقا للمثل الشعبي: "حبيبك يبلع لك الزلط وعدوّك يتمنى لك الغلط"؛ فلا نبتلع الزلط لأي مخلوق، مهما بلغ حبّنا أو عشقنا له، ولا نتمنى الغلط لأي إنسان مهما أبغضناه، ولنعمل "الوعي" في الحالتين؛ فالوعي إن لم ينتعش بالاستخدام "سينتكس" بالإهمال.
نحذّر من التأثير الضار "التراكمي" للتدليس على الوعي، والمثل الشعبي "الزنّ على الودان أمرّ من السحر" صحيح فقط لمن يواصلون الاستماع إلى "الزن".
يحدُث التدليس أحيانا لشغل الرأي العام بقضايا لا تخصّه "واستدراجه" إلى معارك بين الجنسين، "لاستنفاد" قواه، ولشغله عن الاهتمام بما يجعله "أقوى"، وأكثر تأثيرا في صنع حاضره ومستقبله. وكما نسارع بالابتعاد عن أي مستنقع ونحمي أنفسنا من روائحه البشعة، ونقفز بعيدًا عنه، حتى لا نقع فيه، فلنفعل ذلك مع التدليس وعشّاقه ولا نسمح لأنفسنا بأن نكون من مريديهم ومن مروّجي مخدّراتهم السالبة للوعي. وقد صحّ قول علي شريعتي: "الاستحمار تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مساره عن النباهة الإنسانية والاجتماعية، فردًا كان أو جماعة، وأي دافع عمل على تحريف هاتين النباهتين هو دافع استحمار".