واشنطن – طهران .. خطط التفاوض وتبعاتها

03 مارس 2021
+ الخط -

لا يزال شّد الحبال يحكم التجاذب الأميركي الإيراني بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، فكل من الطرفين يسعى إلى تسجيل هدفٍ في مرمى الطرف الآخر عبر دفعه إلى القبول بالقيام بالخطوة الأولى، على أمل أن يكون هدفه الأول مدخلا إلى مفاوضاتٍ سلسةٍ بشأن بقية الملفات المطروحة، وتصب في مصلحته. وهذا استدعى انخراطهما في مناوراتٍ سياسيةٍ ودبلوماسية وعسكرية مركّبة ومعقدة، شملت ساحات ومواقع كثيرة. وقد كان لافتا انطواء خطط الطرفين على عناصر متشابهة إلى حد التطابق.

بدأت إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، جوزيف بايدن، بالإعلان عن استعدادها للعودة إلى الاتفاق، إذا التزمت إيران بمقتضياته وتراجعت عن الإجراءات التي اتخذتها في الفترة الماضية (تجاوز الحد المسموح به في مجال تخصيب اليورانيوم، كما ونوعا، تركيب أجهزة طرد مركزي متطوّرة، تعدين اليورانيوم، وتقييد حركة المفتشين الدوليين)، وربطت عودتها إلى الاتفاق، ورفع العقوبات الاقتصادية عن إيران بتأكدها من التزام الأخيرة بقيود الاتفاق العتيد، ورفضت مناقشة أي بوادر حسن نية، قبل أن تجتمع مع الجانب الإيراني وجها لوجه.

ارتبط موقف الإدارة الأميركية من العودة الفورية إلى الاتفاق بجملة عوامل، ومعطيات محلية وإقليمية ودولية؛ بدءا من وجود انقسام داخل الحزب الديمقراطي حول سبل التعامل مع إيران، إلى تحفظات الكونغرس على أي تساهلٍ مع الممارسات الإيرانية، وضرورة عدم السماح لها بالإفلات من العقاب على انتهاكاتها حقوق الإنسان واستفزازاتها ضد دول الجوار عبر تمويل وتسليح مليشيات شيعية متهمة بقتل أميركيين، ورعايتها منظمات إرهابية، بما في ذلك علاقتها الملتبسة مع تنظيم القاعدة، وتحفظ حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، لاسيما إسرائيل ودول في الخليج العربي شكلت بينها حلفا سياسيا لمواجهة إيران، ومطالبة دول أوروبا بالعودة إلى الاتفاق، وانعكاس هذه العودة ورفع العقوبات الاقتصادية على الخطط الأميركية للتصدّي لروسيا والصين، وسعيها إلى احتواء تمدّدهما في الإقليم. لذا جاء التمسّك الأميركي بعودة إيران عن إجراءاتها أولا، وتوجيه وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، إلى مسؤول الملف الإيراني في الإدارة، روبرت مالي، بإشراك شخصياتٍ لها موقف متشدّد من إيران في فريقه، من جهة، والعمل على ترويض الحلفاء، خصوصا إسرائيل والسعودية، عبر تأخير اتصال الرئيس الأميركي الجديد برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي لم يكتف بإعلان مواقف عنيفة واستفزازية، يرفض فيها عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق، وتصوير الملف الإيراني موضوعا مركزيا ومُلحّا من شأنه أن يؤثر سلبا على مكانة إسرائيل وأمنها في المنطقة، وجعله معيارا لقوة علاقة الإدارة الجديدة مع إسرائيل، بل وسمح لقائد الأركان الإسرائيلي، راف ألوف أفيف كوخافي، بالإعلان عن وضع خطة عسكرية هدفها منع إيران من إنتاج سلاح نووي. وكلف مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، مائير بن شبات، بمتابعة الملف مع الإدارة الأميركية والكونغرس، لعرقلة عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق.

كشفت الولايات المتحدة عن قدراتٍ نوويةٍ إسرائيلية عبر نشر صور دقيقة لموقع مفاعل ديمونة في النقب في سياق الضغط على إسرائيل

في سياق الضغط على إسرائيل، جاء كشف الولايات المتحدة عن قدراتٍ نوويةٍ إسرائيلية عبر نشر صور دقيقة لموقع مفاعل ديمونة في النقب، وهو يخضع لتطوير وتوسيع؛ وأخرى لقاعدة أمنية، مطار جنوب غرب القدس، فيه ثلاث طائرات تحمل صواريخ "أريحا" مزودة برؤوس نووية، من جهة، والضغط عليها في ملف تعاملها مع الصين واستقبال استثمارات صينية في مجالي الذكاء الاصطناعي والأسلحة، من جهة ثانية، وإغرائها بالتعاون لتطوير صاروخ آرو، السهم، المضادّة للصواريخ، من جهة ثالثة. وضغطت على السعودية بنشر تقرير استخباراتي عن إعدام الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018. ورفعت اسم حركة أنصار الله، الحوثية، من قائمة الإرهاب، في مسعى إلى فتح طريق التفاوض على حل في اليمن يُخرج المملكة من مستنقعٍ علقت فيه، من جهة ثانية. وجدّدت التعهد بحماية المملكة من أي عدوانٍ خارجي، من جهة ثالثة. وكشفت عن مواقف متشدّدة في مواجهة روسيا والصين في مجالي حقوق الإنسان (قضية تسميم المعارض الروسي ألكسي نافالني وسجنه وقمع تظاهرات أنصاره، واضطهاد الصين شعب الإيغور والقمع في هونغ كونغ)، والتمدّد الإقليمي (أرسلت مدمرة إلى بحر الصين الجنوبي، لتأكيد حق العبور في البحار ونشّطت حضورها في حلف شمال الأطلسي، لمواجهة التنمر الروسي ضد دول شرق أوروبا).

ربطت إدارة بايدن عودتها إلى الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، بتأكدها من التزام الأخيرة بقيود هذا الاتفاق

لم تكتف إيران برفض التراجع عن إجراءاتها والالتزام بمقتضيات بنود الاتفاق النووي، قبل أن تعود الولايات المتحدة إلى الاتفاق، وترفع العقوبات الاقتصادية عنها، بل وراحت تمارس ضغوطا على الولايات المتحدة، من خلال التحرّش بحلفائها في الإقليم والعالم، باحتجاز ناقلة نفط كورية جنوبية، بذريعة تجميد الأخيرة سبعة مليارات دولار ثمن نفط، وبتنشيط عمليات نقل أسلحة متطوّرة إلى مليشياتها في سورية والعراق، أشارت مصادر كثيرة إلى شحن ونشر صواريخ متوسطة متطوّرة لردع القوات الأميركية في التنف وشرق الفرات، وتهديد أمن إسرائيل. وفسّرت الغارات الإسرائيلية الكثيفة بالعمل على إجهاض عمليات نقل هذه الأسلحة ونشرها، وبالاعتداء على باخرة شحن في خليج عُمان يملكها إسرائيلي، وقصف مليشيات تابعة لها مطار أربيل بستة صواريخ، قتل فيه متعاقد أميركي مدني وجرح آخرون، وتجديد الحوثيين استهداف الرياض بالصواريخ الباليستية والمسيرات الانتحارية إيرانية الصنع، في عمليات تخويف من فوضى شاملة للضغط على الولايات المتحدة، لدفعها إلى القبول بالعودة إلى الاتفاق، ورفع العقوبات الاقتصادية.

جاء الرد الأميركي على قصف مطار أربيل وقتل أميركي سريعا بقصف مواقع مليشيات تابعة لإيران داخل الأراضي السورية، قيل إن القصف استهدف، إلى جانب مبان لمليشيات حزب الله العراقي وكتائب سيد الشهداء، ثلاث شاحنات تحمل أسلحة إيرانية مرسلة إلى مليشيات تابعة لها في منطقة غرب الفرات، تجهيزا لمعركة كبيرة يخطط لها الحرس الثوري الإيراني ضد القوات الأميركية. ووصف الرد بـ "المعتدل"، وبـ "رسالة تحذير موجهة إلى إيران"، وفق تقديرات محللين سياسيين، وبردٍّ "محسوب" تجنبا لتصعيد الموقف، وفق الناطق باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، الذي جدّد تحذير إيران من مغبة التصعيد بقوله: "سنحمّل إيران المسؤولية عن أفعال أتباعها الذين يهاجمون الأميركيين في العراق". المهم دلالتها ومغزاها في إطار التجاذب حيث عكست الجمع بين الدبلوماسية والعمل العسكري. رأت فيه موسكو تطوّرا مقلقا في حال كان تعبيرا عن توجه إستراتيجي جديد، يجمع بين العمل العسكري والسياسي؛ ما دفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى دعوة مجلس الأمن القومي الروسي إلى اجتماع طارئ، وإلى إجراء اتصالٍ دولي هام، وفق الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، من دون الكشف عن الجهة التي أجري معها الاتصال.

أرادت الولايات المتحدة بردّها على هجمات أربيل إقناع إيران بعدم جدوى تكتيكاتها في الضغط عليها

أرادت الولايات المتحدة بردّها إقناع إيران بعدم جدوى تكتيكاتها في الضغط عليها لدفعها إلى القبول بالتصور الإيراني بالعودة المتزامنة إلى الاتفاق، ودعوتها إلى القبول بالاقتراح الأوروبي عقد جلسةٍ غير رسمية لأطراف الاتفاق النووي (4+1) تحضره أميركا؛ لبحث كيفية إحياء الاتفاق، وحذّرتها من أن صبرها يكاد ينفد، كان لإيران موقف مماثل عبّر عنه وزير خارجيتها، محمد جواد ظريف، بإعلانه أن الفرصة أمام واشنطن محدودة؛ ودعوة المرشد الأعلى، علي خامنئي، إلى البدء في تخصيب اليورانيوم "من اليوم"، وإبلاغ رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، علي أكبر صالحي، الوكالة الدولية للطاقة الذرية البدء بتركيب أجهزة طرد مركزي من الجيل الثاني في موقع نطنز.

يرجّح أن يستمر التجاذب فترة طويلة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي ستجري يوم 18/6/2021، على الرغم من حاجة الطرفين إلى العودة للبناء عليها، فالولايات المتحدة ترغب في العودة إلى التفرّغ لملفات داخلية وخارجية أكثر أهمية، مواجهة وباء كورونا وتحفيز الاقتصاد والتصدي لروسيا والصين وإرضاء حلفائها الأوروبيين الذين ينتظرون رفع العقوبات للعودة إلى السوق الإيرانية الكبيرة، والعمل والاستثمار فيها. وإيران بحاجة للعودة من أجل رفع العقوبات واستعادة الأموال المجمّدة واستئناف تصدير النفط وتوفير سيولةٍ لتمويل مشاريع التنمية، وتلبية احتياجات السوق المحلية للسلع وقطع الغيار وأدوات الإنتاج ومواصلة تمويل المليشيات التابعة لها للمحافظة على حضورها وسيطرتها في دول الجوار. وهذا الأخير، حضورها في دول الجوار، يحدّ من حوافز إدارة بايدن لعودة سريعة إلى الاتفاق، في ضوء عدم استطاعتها تجاهل تطلعات حلفائها في الإقليم للجم تدخل إيران في شؤونها الداخلية، وتهديد أمن إسرائيل، كما لعدم قدرتها على السماح لإيران بشراء أسلحة روسية، الأمر الذي يحرّمه "قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة" المعروف اختصارا بـ"كاستا"، أو بيع كميات نفط كبيرة للصين، لأنه ينعكس سلبا على مصالحها في الإقليم والعالم.