هوامش على دفتر العراق

11 اغسطس 2021
+ الخط -

(1)

عشرين عاماً والعراقيون عالقون بين لون الدم الأحمر ولون الظلمة الأسود، وقد قدّر لهم أن يقعوا ضحية "عمى الألوان"، فما عادوا يفرزون بين هذا اللون وذاك، لكنّ بشارة زائفة بالتغيير إلى حال أفضل جاءتهم عبر اللون الأبيض الذي اختاره رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، لورقته الاقتصادية التي أطلقها في مبارزةٍ علنيةٍ مع منافسيه، وأراد منها أن تكون "برنامجاً وزارياً" لخمس سنوات، متعللاً بالأمل في أن يخدمه الحظ، وأن ترسو عليه "مقاولة" اختيار رئيس لحكومة ما بعد الانتخابات!

والحقيقة أن مواطنيه المسحوقين تحت خط الفقر لم يعودوا في وارد تصديق أنهم سينعمون يوماً ببركات بلدهم الذي حباه الله ثرواتٍ، لو أحسن الحاكمون استخدامها لدرّت "المنّ والسلوى". ولكن كيف لهم ذلك، وقد شاء القدر أن يضعهم تحت رحمة قوى ظاهرة وخفية، تمثل أحزاباً ومليشيات ومافيات و"حيتان فساد" استحوذت على الزرع والضرع، يكفي أن الأموال التي نهبتها هذه القوى وهرّبتها إلى خارج البلاد زادت على 150 مليار دولار بشهادة الرئيس برهم صالح الذي أراد تبرئة ذمته، فاقترح مشروع قانون لاسترداد الأموال المنهوبة لم يرَ النور بعد. وأغلب الظن أن ورقة الكاظمي البيضاء التي أطلقها في الهزيع الأخير من رئاسته لن تكون أوفر حظاً من القانون الذي اقترحه صالح، ولن تغير في واقع الحال الأسود والمحفوف بالدم الأحمر الذي يعيش فيه العراقيون على امتداد 18 سنة عجفاء، الفضيلة الوحيدة للورقة هي في اعترافها بفشل المنظومة السياسية التي جاء بها الأميركيون، وإقرارها بأن "استشراء الفساد" أعاق ويعيق أي مشروع اقتصادي إصلاحي يضمن تنمية مستدامة، ولن تتحقق أية خطواتٍ عمليةٍ على طرق الحل ما لم تُحجَّم تلك القوى السوداء وقطع أيديها، ولا نعتقد أن الكاظمي قادر على فعل كهذا، هنا يصبح إطلاق "الورقة البيضاء" نوعاً من الضحك على الذقون"!

(2)

ليس في العراق بعد عقدين من الغزو سوى دولة فاشلة تعاني من أزمةٍ بنيويةٍ حادّة سياسة واقتصاداً ومجتمعاً، وفي حالة ارتهان للأجنبي وعجز عن اتخاذ القرار، تتحكّم فيها قوى ما قبل الدولة، مليشيات ومافيات وعشائر وأفراد لا سوية لهم ولا كفاءة، هذه حقيقة تعبّر عنها بجلاء سجالات موسم الانتخابات الذي بدأ مبكّراً، وقد انقسم السياسيون الحاكمون والمعارضون على حد سواء بين داعٍ إلى المقاطعة وساعٍ للمشاركة، وبعدما أصبحت اللعبة مقروءةً حتى في تفاصيلها الصغيرة لم تعد تلك السجالات سوى "ثرثرة’" فارغة، كتلك التي وصفها مرّة الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا، وهو ينقد عملاً مسرحياً بأنها تبقى ثرثرة فقط، وفي أمور ليست ذات جدوى، ولأن المنخرطين فيها عاجزون عن فعل شيء، وحسبهم ممارسة "شو" إعلامي مطلوب قبل الاستحقاق الانتخابي الذي يجيء متعثراً وقد لا يجيء.

عشرون عاماً والعراقيون عالقون بين لون الدم الأحمر ولون الظلمة الأسود

اجتماعات الرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان) مثال على ذلك، فالمسؤولون الكبار الثلاثة اعتادوا في اجتماعاتهم إدارة ما يشبه حواراً مسرحياً من "اللامعقول": الرئيس برهم صالح طرح فكرة تأسيس عقد سياسي جديد يضمن تحقيق مراجعة للعملية السياسية الماثلة التي أقرّ بفشلها، وقدّم لاحقاً مشروع قانون لمحاربة الفساد، لكن ذلك ظل حبراً على ورق. ورئيس الحكومة مصطفى الكاظمي كرّر في كل الاجتماعات أن هدفه بناء الدولة واستعادة هيبتها، لكنّ أحداً لم يصدّقه، فيما كان رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، يشطح بعيداً في كل اجتماع، مطالباً بمشاريع إصلاحية وهمية، آخر شطحاته فكرة "تدوير الرئاسات بين ممثلي المكونات"، أي تبادل المناصب الرئيسية الثلاثة بين ممثلي الشيعة والسنّة والأكراد مع كل دورة انتخابية.

وهكذا تتكرّر الحوارات العبثية التي تسعى إلى أن توقف الزمن عند الكراسي الثلاثة. ونفهم من المتحاورين أنهم لا يرون ما هو ماثل على أرض الواقع، ويتجاهلون أنّ ثمّة لاعبين يديرون الصراع من خارج الحدود، ويتحكّمون بالمال والسلاح والقرار عن بعد، ويملكون "الفيتو" على أي قرارٍ لا ينال رضاهم، ويعملون على إسقاط هيبة الدولة من خلال تابعيهم المحللين. وفي ظلهم تبدو الرئاسات الرسمية الثلاث مجرّد "ديكور" مطلوب لإكمال المشهد، وتصبح اجتماعاتها حوارات طرشان. وفي بلد مدمر ومنهوب كالعراق، يبدو هذا النمط من "الثرثرة" قابلاً للحياة لزمن أطول، وقد أصبح انتظار "المهدي" لدى أبناء الشعب الباحثين عن الخبز والأمان ليس أقلّ مللاً من انتظار غودو الذي لن يجيء.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"