هل يُستأنف مسار "أبراهام"؟
الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير متوقَّع غالباً، مزاجي في مواقف كثيرة، إلّا في الشأن الصهيونيّ، فهو "كجلمود صخرٍ حطّه السيل من علٍ"، صلبٌ ثابتٌ على عشقه للكيان البلاء، مثل سَلَفِه جو بايدن، الصهيوني من غير أن يكون يهودياً. ولولاية ترامب الثانية بعد أسابيع قليلة، يكفي التذكير بالمبالغ الضخمة التي قدّمتها ميريام أدلسون، أرملة الثري الصهيوني شيلدون أدلسون، أحد أكبر مالكي الكازينوهات في لاس فيغاس، سائلة ترامب "أمراً بسيطاً" لقاء سخائها لحملته الانتخابية؛ "تهجير من في الضفة الغربية إلى الأردن"، وكان الله يُحبّ المحسنين.
بناءً على ذلك، بات ممكناً (والدَّين في رقبة ترامب) توقّع ما سيبذله لمعشوقته "إسرائيل"، فإن لم يكن وفاء الدَّين تهجيراً صعباً، أو مستحيلاً ربّما، لضفة الخمسة ملايين، فسيكون بالتأكيد جرّ السعودية إلى مشروع التطبيع، حتى من دون أي حلٍّ للقضية الفلسطينية، لأن جوهر اتفاقيات أبراهام قائم في استفراد الدول العربية واحدة تلو الأخرى كي تطبّع فردياً لا جماعياً، على عكس "صفقة القرن"، التي وُئِدت في مهدها بسبب الإجماع الفلسطيني، سلطة وفصائلَ، على رفضها جملة وتفصيلاً، فابتكر الثنائي ترامب كوشنر بديلاً فورياً لتلك الصفقة الفاشلة ذي أساس ديني (النبي إبراهيم الذي تؤمن به الأديان التوحيدية الثلاثة في المنطقة). هذه الاتفاقيات لا تلزم أميركا ولا الكيان بأي حلٍّ للقضية الفلسطينية، ولا تعدو سلاماً وتطبيعاً مجّانيين بلا أي مقابل.
لا يملك ترامب في المرحلة المقبلة سوى مشروع توقّف مع انتهاء ولايته الأولى، وكان قاب قوسين أو أدنى من التحقّق، تطبيع السعودية مع العدوّ، لقاء عطايا أميركية، بينها اتفاق دفاعي أمني بين السعودية والولايات المتحدة، وتفاهم بين الطرفين حول برنامج نووي مدني في السعودية، يحتاج دعم ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ. في 11 من الشهر الجاري (ديسمبر/ كانون الأول)، أرسل ترامب مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي التقى ولي العهد محمّد بن سلمان، وبحث معه مسألة تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" والحرب في غزّة ومواضيع أخرى، علماً أن ويتكوف المقرّب جدّاً من ترامب كان الخيار الأنسب لتهيئة أجواء صفقة ضخمة مع المملكة فور انتهاء ولاية بايدن، على قاعدة "سلام طويل الأجل"، تشمل إنهاء الحرب في غزّة وتبادل الأسرى، على أن تقدّم "إسرائيل" للرياض التزاماً غامضاً بـ"مسار نحو إقامة دولة فلسطينية"، من بضع كلمات لا مصداقية لها، ولا تعني شيئاً في قاموس الصهاينة، الذين كلّفوا وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر بالملفّ، وسط تعتيم على التفاصيل. ورغم أن ولي العهد السعودي لا يحمل اهتماماً خاصاً بنشوء دولة فلسطينية، فإنه يرى أن تقدّماً في هذا الشأن يكسبه الدعم السياسي والديني داخل بلاده لعقد اتفاقية التطبيع. ومن المتوقّع أن تقدّم الولايات المتحدة "جائزة ترضية"(ليست جائزة في الواقع بل ابتزازاً) إلى السعودية بأن تتولّى هي إعمار غزّة. فيا للمكسب الثمين!
تأتي الموجة الراهنة من التطبيع بغطاء ديني "مسياني" عملت له مراكز البحوث الأميركية لأكثر من عقدين تحت مسمّى "الديانة الإبراهيمية"
تأتي هذه الموجة من التطبيع بغطاء ديني "مسياني" (أو "مشيحاني" يجمع اليهودية إلى المسيحية المتصهينة التي تجمع العهدين القديم والجديد)، وقد عملت له مراكز البحوث الأميركية لأكثر من عقدين تحت مسمّى "الديانة الإبراهيمية"، وهو مشروع مشبوه يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية. وعودة ترامب إلى الرئاسة تفرض طبيعياً ومنطقياً استئناف مسار ما يسمّى "الدبلوماسية الروحية" خدمة لمصالح "إسرائيل"، وتبنيّاً لمبدأ "السلام مقابل السلام" (رحمة الله على شعار السلام مقابل الأرض). فالتجسيد العملي لـ"الإبراهيمية" كان عبر اتفاقيات التطبيع التي أُنجزت، بين الكيان الصهيوني الإبادي وكلٍّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. أمّا نتنياهو فهو واثق من أن السعوديين سوف يتنازلون عن "شرطهم الفلسطيني" في عهد ترامب، الذي كان مُحبطاً في ولايته الأولى من عدم نيله جائزة نوبل للسلام، بوصفه صاحب فضل في إبرام اتفاقيات أبراهام التطبيعية، آملاً في أن يستحقّ هذه الجائزة (حرامٌ فعلاً، ألّا ينالها؟!) بعد إبرام الصفقة التطبيعية الأضخم على الإطلاق بين السعودية والكيان.
في جانب آخر، ذكرت صحيفة معاريف الصهيونية أنَّ مسألة التطبيع مع السعودية قد تأخذ منحى كبيراً، فالسعوديون الذين اقتربوا في الآونة الأخيرة من الصين وإيران قد يطالبون بثمن أكبر للتطبيع، خاصّة حين يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية. وشكّكت آنا براسكي، من الصحيفة نفسها، في إمكان أن يحقّق اليمين الإسرائيلي المتطرّف طموحاته بضمّ أراضٍ في الضفّة الغربية، بحسب رغبة الموتور بتسلئيل سموتريتش، يفضي إلى تعقيد التوصّل إلى اتفاقيات. والمسألة برمتها تُختصر بإعادة الزخم لمسار قُطع وتوقّف في عهد جو بايدن، ويروم ترامب استئنافه إنجازاً فريداً له يُدخله التاريخ.