هل ينتصر جيش الاحتلال في غزّة؟

هل ينتصر جيش الاحتلال في غزّة؟

02 ابريل 2024
+ الخط -

تشير مواقف القيادة الإسرائيلية إلى أنّ رؤيتها إلى ترتيبات ما بعد الحرب على غزّة أصبحت متوافقة تماماً مع رؤية أحزاب أقصى اليمين التي يعبّر عنها حزبا الصهيونية الدينية وعوتسماه يهوديت. ولم نعُد نرصد، في هذا الشأن، أي اختلافٍ بين حزب الليكود العلماني وحزبي بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، فالرفض الدائم الذي يبديه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، لمناقشة ترتيبات اليوم التالي للحرب، ورفضه ما عبّر عنه مراراً بأن تكون غزّة "حماسستان" و"فتحستان"، تعني أن رؤيته أصبحت هي نفسها رؤية قوى أقصى اليمين.
لا يبتعد ما يفكّر فيه هذا الفريق كثيراً عن فحوى المقال الذي نشرته "ماكور ريشون"، في 26 الشهر الماضي (مارس/ آذار) للكاتب منشيه أيفز، وهو أحد كتّاب الصحيفة المحسوبة على التيار الديني القومي، والصهيونية الدينية. ويرى أيفز أنّ تحقيق الانتصار المطلق في الحرب الحالية لن يحدُث حينما ترى إسرائيل أنّها انتصرت، بل عندما يعرف "العدو" أنّه قد هزم فعلياً، فقد عانت إسرائيل، في حروبها السابقة ضد الفصائل الفلسطينية في غزّة، من عدم فهمها لهذه الطبيعة الفلسطينية التي لا تُقرّ بالهزيمة، وعلى إسرائيل أن تفهم أنّ البنية النفسية للمقاومة تختلف تماماً عما يمتلكه الإسرائيليون، فإخضاع "العدو" بهذه الطريقة لن يحدُث، "ويجب ألّا ينتظر أحد استسلام إسلاميين قمّة طموحهم الوصول إلى الآخرة، فلا يمكن أن تهزم شهيداً بأن تحقّق له ما يتمنّاه". ويقدم أيفز طريقاً بديلاً لإيقاع الهزيمة بالفصائل الفلسطينية، بأن تخسر تلك الفصائل الأرض، وأن تستولي إسرائيل على جزء من أراضي القطاع بشكل دائم، فالأرضُ عند العربي مثل العرض، وهي أغلى من الروح. كما أن الهزيمة تحدُث أيضاً إذا فقد أهل غّزة ما كان لديهم من حكم ذاتي، وإذا أصبح من يحكُم غزّة خاضعاً للسلطات الإسرائيلية، وبحسب هذه الرؤية، لا حاجة مطلقاً لأن تنشغل إسرائيل بالأوضاع المعيشية لسكّان القطاع.

طول أمد الحرب، رغم صعوبته الشديدة على مواطني غزّة، ليس في صالح الكيان الصهيوني

وسواء كانت رؤية نتنياهو لتصوّرات ما بعد الحرب اتّساقاً مع مواقف سموتريتش أو بن غفير أو خوفاً من انسحابهما من الحكومة، فهذا لن يغيّر من الأمر شيئاً، لكنه مرهونٌ أولاً بأن يحقّق الكيان الصهيوني انتصاراً مطلقاً لا يكفّ نتنياهو الحديث عنه، وهو انتصارٌ لا يلوح في الأفق، رغم قرب دخول الحرب شهرها السابع. في هذا السياق، نشر معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، في الأيام الماضية، تقدير موقف للحرب في غزّة قدّم فيه عرضاً موسّعاً شمل إحصائيات عديدة لما قامت به إسرائيل، وما تعرّضت له في فلسطين وفي الجبهات الأخرى المختلفة، وعن حجم المساعدات التي تلقّاها الكيان الصهيوني، وأعداد القتلى والأسرى، وتقارير اقتصادية... إلخ، إضافة إلى عدّة استطلاعات للرأي أجريت من أول أحداث "طوفان الأقصى" حتى 10 الشهر الماضي (مارس/ آذار). وما يهمنا هنا الإشارة إلى استطلاعات ذات دلالة مهمة للإجابة عن السؤال موضوع المقال.
اهتم أحد هذه الاستطلاعات بالإجابة عن السؤال: "في رأيك، هل ينتصر الجيش في الحرب في غزّة أم لا؟"، وكشف عن منحنى يظهر تراجع ثقة الجمهور الصهيوني في إمكانيّة الانتصار، وزيادة الشكّ كلما طال أمد الحرب. ففي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كانت نسبة المعتقدين بالانتصار 92%، ثم تراجعت تدريجيّا مع ارتفاعات محدودة أحياناً، لكن ما يهم أنّها في المؤشرات الأربعة الأخيرة: في 10 و17 ديسمبر/ كانون الأول، و4 فبراير/شباط، و10 مارس/ آذار، ظلّت تتراجع بشكل دائم، وإن كان تراجعاً بسيطاً، لكنه كان مستمرّاً. وهكذا، بدأ المنحنى من نسبة ثقة تصل إلى 92% في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وانحدر إلى 75% في الأخير. وكان طبيعياً في ظلّ ذلك أن ترتفع نسبة من يعتقدون أن الجيش لن ينتصر، والتي كانت 4% في أكتوبر، ووصلت إلى 13% و12% في فبراير/ شباط ومارس/ آذار. ويضاف إلى ذلك زيادة نسبة المتشكّكين الذين لا يملكون إجابة عن السؤال، فكانت 4% في أكتوبر، ووصلت إلى 13% في الأخير. ما يعنيه ذلك، أنّ طول أمد الحرب، رغم صعوبته الشديدة على مواطني غزّة، ليس في صالح الكيان الصهيوني.

اضطرّ الإسرائيليون خلال الحرب التي شارفت على إنهاء شهرها السادس للنزول إلى الملاجئ أكثر من 11 ألف مرة

كان الأمر أكثر وضوحا حينما تعلق الأمر بالسؤال: "في رأيك، هل تتحقق أهداف الحرب في غزّة؟". ومع الأخذ بالاعتبار أنّ تقدير الموقف لم يذكُر سوى هدف واحد، وهو تدمير "حماس" في غزّة، فإنّ الإجابة عن السؤال تكشف أنّ من يعتقدون في قدرة إسرائيل على تحقيق كامل أهداف الحرب محدودون للغاية، مع تأرجح وتراجع مستمرّين. فكانت النسبة 12% في أكتوبر، ثم تأرجحت في نوفمبر/ تشرين الثاني بين 20 و19 و13%، ثم تراوحت بين 12 و11% في ديسمبر، واستقرّت عند 10 في فبراير/ شباط ومارس/ آذار، واعتقدت النسبة الأكبر أنّ إسرائيل ستحقق أغلب الأهداف وليس كلها، مع ملاحظة التراجع المستمرّ لمؤيدي هذا الاحتمال في الشهرين الأخيرين: 57% في نوفمبر، 45% في مارس. أما الملاحظة المهمة هنا فتتعلق بنسبة من اعتقدوا عدم تحقيق إسرائيل أي أهداف من الحرب مطلقا، أو تحقيق النذر اليسير منها فحسب، فقد بدأت بنسبة 29% في أكتوبر، وارتفعت لتستقرّ عند 36% في فبراير ومارس. وينسجم ذلك كله مع استطلاع ثالث حول مدى الثقة في رئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، ومع ملاحظة تدنّي مستوى الثقة فيه طوال الوقت، فإنّها ظلت تتراجع باستمرار منذ ديسمبر الماضي، لتصل إلى 63% في مارس الماضي.
وتفيد الإحصاءات بأنّ الإسرائيليين خلال الحرب التي شارفت على إنهاء شهرها السادس اضطرّوا للنزول إلى الملاجئ أكثر من 11 ألف مرة، وأنّ حوالي 700 منطقة، بين مدينة أو قرية أو مستوطنة، تعرّضت لصواريخ المقاومة انطلاقاً من غزّة أو جنوب لبنان، لتشمل كل أنحاء فلسطين المحتلة تقريباً. كذلك فإنّ العمليات التي تنفذها المقاومة خلال الأيام الأخيرة في شمال القطاع غزّة، بما فيها منطقة مستشفى الشفاء، تكشف عدم دقّة بيانات الجيش الإسرائيلي المضطر على ما يبدو لتقديم بيانات يومية لصناعة صورة إنجاز على الأرض، وهي بيانات لا تخلو من مبالغة واضحة في أرقام كثيرة يعلنها، وتحديداً فيما يخصّ عدد شهداء المقاومة الذين تمكّن من قتلهم، أو عدد الأسرى لديه منهم. من ذلك، مثلاً، أنّ المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أعلن في 25 مارس/ آذار عن قتل 170 فرداً من مقاتلي المقاومة حول مستشفى الشفاء في يوم واحد، رغم ما يعرفه الجميع من أنّ الغالبية العظمى من الرقم المعلن هي من المدنيين. وقد اعتادت إسرائيل منذ بدء الحرب إحصاء أكثر الشهداء المدنيين في غزّة بين المقاومين لتبرير حجم الجرائم والإبادة التي تقوم بها، ما يدفع للتشكيك أصلاً في ادّعائها قتل 13 ألفاً من المقاتلين في غزّة، أعلن عنها تقدير الموقف المشار إليه.

ثقة متراجعة في النصر كلما طال أمد الحرب، وتأخّر الحسم العسكري أمام صمود المقاومة وتضحيات لا حدود لها يقدمها أهل غزّة

وعلى الرغم مما يعلنه الجيش الإسرائيلي بشكّل منتظم عن تدميره لقدرات "حماس" في أكثر مناطق قطاع غزّة، فإنّ ما يتسرب من تقارير يشير إلى غير ذلك. فطبقاً لأحدها، نشرته صحيفة غلوبس الإسرائيلية، في 21 مارس، نقلاً عن "وول ستريت جورنال"، يؤكد منتقدو نتنياهو في الولايات المتحدة، وفي المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وفي مجلس وزراء الحرب الصهيوني، أنّ "حماس" ما زالت تتمتع بالقدرة على أن تكون هي من يملأ الفراغ من جديد بعد نهاية الحرب. ذلك كله رغم حجم المساعدات العسكرية والمالية والاستخبارية التي قدمتها واشنطن للاحتلال، والذي وصل حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي لأكثر من عشرة آلاف طنّ من الأسلحة، نُقلت إلى الكيان عبر أكثر من 244 رحلة لطائرات الشحن العسكري، تضمّنت أكثر من 23 ألف صاروخ موجه، وأكثر من 16 ألف قنبلة ثقيلة، إلى جانب مليارات الدولارات من المساعدات المالية، يضاف إلى ذلك ما قدمته الدول الأوروبية، فضلاً عما تملكه إسرائيل نفسها.
ما تعانيه إسرائيل لا يقتصر على غزّة وحدها، فالزيادة الكبيرة في العمليات التي ينفذها الفلسطينيون في مناطق الضفة الغربية ضدّ المستوطنين الإسرائيليين تمثل مصدر قلق كبير، إذ وصل عدد العمليات، منذ بداية "طوفان الأقصى" وحتى نهاية فبراير، إلى 2053 هجوماً، أي ما يقارب 500 هجوم كل شهر تقريباً، حسب تقدير الموقف المشار إليه، وهو ثمن آخر تدفعه إسرائيل يجب أن يوضع في الحسبان، وأن تضاف إليه تأثيرات ما يقوم به حزب الله والحوثيون عسكرياً وتجارياً، ويعزّز ذلك كله الرفض العالمي المتزايد لإسرائيل.
ما سبق يشير إلى أنّ إسرائيل، أيضاً، تعيش أزمة كبيرة تعكسها اختلافات السياسيين ونزاعاتهم المعلنة، وتفكّك أضحى وشيكاً لحكومة الحرب، بدءاً باستقالة جدعون ساعر، ولن تكون آخرها، وتعكسها كذلك تلك الثقة المتراجعة في النصر كلما طال أمد الحرب، وتأخّر الحسم العسكري أمام صمود المقاومة وتضحياتٍ لا حدود لها يقدّمها أهل غزّة.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.