هل يحتاج الفلسطينيون إلى اتفاق مصالحة جديد؟
كان مشهد القادة الفلسطينيين الذين وقعوا "اتفاق الجزائر" يدعو إلى الشفقة، ليس فقط لوجود ممثلي قوى لا قيمة لهم في الواقع الفلسطيني، ولوجود قوى أخرى على يدها دم فلسطيني لم يجفّ بعد فحسب، بل ولأنهم يحتاجون إلى دور رعاية للمسنين، وليس البقاء في ساحة سياسية ما زالت تتهاوى بسبب وجودهم فيها. لا أعتقد أن من وقّعوا على البيان يصدقون أنه في طريقه إلى التنفيذ، فقد وقّعوا اتفاقات مصالحة سابقة سرعان ما نسوها، ولا جديد في هذا الاتفاق يجعلهم جادّين في تنفيذه. وإذا كان هذا حال القوى التي وقعت الاتفاق، فمن المؤكّد أن هذا الاتفاق هو حال محبطة للفلسطينيين الذين يعانون من وضعٍ متردٍّ منذ الصراع الدموي في العام 2007 بين الأطراف الرئيسية الموقعة على الاتفاق. فما ينطبق على اتفاق المصالحة في الجزائر، قصة "الراعي والذئب"، فمن كثرة الاتفاقات التي وُقعت بين الأطراف، منفردة أم مجتمعة، مع ديكور فصائلي، لم يعد هناك فلسطيني يصدّق أن اتفاقاً جديداً للمصالحة سيجد طريقه إلى التنفيذ، ويغير الواقع الذي تكرس على الأرض، وكرّس مصالح للطرفين تفوق أي رغبةٍ في تجاوزه لإنجاز واقع فلسطيني جديد، سيستجيب للمخاطر الحقيقية التي تتحدّث الأطراف عنها من دون أن تفعل شيئاً لمواجهتها على الصعيد الداخلي، الذي لو كانت هناك نية حقيقية لإصلاحه، لما احتاجت الأطراف انتظار دعوة الجزائر إلى الحوار والسفر إلى هناك لإنجاز ما هو ملح وضروري من أجل الخروج من حالة الاستعصاء الفلسطينية التي علق فيها الوضع.
لا نقول جديداً، إن النخبة الفلسطينية (إذا استحقت هذا الوصف) منفصلة تماماً عن الواقع، وهذا لا ينطبق على طرفٍ من الأطراف، بل على الجميع. وكأنهم باتوا يعتبرون العمل السياسي يقتصر على الانشغال بالخلافات الداخلية، وكأن الصراع الدموي مع الاحتلال مجرد ديكور لهذه الخلافات، وليس هو مركز العمل السياسي الفلسطيني، وعلى الصراع مع الاحتلال يجب أن يدور العمل السياسي الفلسطيني من جميع الفصائل، لا أن تستهلك الخلافات الداخلية الفلسطينية جل العمل السياسي. هذا لا يصبح عيباً في العمل السياسي، بل يصبح جريمة بحق القضية الوطنية. ولكن من يأبه، طالما من يقومون بذلك يحتكرون العمل السياسي الفلسطيني، وبالتالي يعتقدون أنهم يحتكرون الوطنية الفلسطينية المفصّلة على مقاسهم، ولا تصلح للآخرين الذين لا تنطبق عليهم الوطنية، طالما أنهم يشككون في نيّات هذه القيادة، التي جاء الواقع، المرّة بعد الأخرى، ليقول إنهم غير جادّين في المصالحة، التي وقّعوا اتفاقاً جديداً بشأنها.
دخل جيل المؤسّسين في مرحلة الخرف من دون أن يستقيل أو يتنحّى
خلال السنوات القليلة الماضية، بدأ حراك سياسي فلسطيني يأتي من خارج الفصائل في الضفة الغربية، يهدف إلى مقاومة الاحتلال، أو من أفراد مستائين من فصائلهم. لم يكن هذا بسبب مخاض فلسطيني بدأ من تلكؤ الفصائل فحسب، بل ومن وحشية الاحتلال الذي توغّل في قمع الفلسطينيين وسلبهم أراضيهم، ويعمل على حماية المستوطنين الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية واعتداءاتهم على الفلسطينيين وسرقة مزيد من أراضيهم. لقد باتت إسرائيل مطمئنةً لنجاتها من أي مساءلة في قمع الفلسطينيين، طالما العالم مشغولٌ بقضايا أخرى، في مقدمها الحرب الروسية في أوكرانيا. وطالما أقرّ الرئيس الأميركي، بايدن، خلال زيارته إلى المنطقة في يوليو/ تموز الماضي، وفي ظل الحشد من أجل الحرب في أوكرانيا، أنه يرى حل الصراع عبر حلّ الدولتين، لكنه لا يرى ذلك قابلا للتحقيق في المدى المنظور. وكانت المفارقة رهيبة أن يتحدّث عن احتلال روسي غير مشروع في أوكرانيا، وعليه الرحيل فوراً، ولا يرى أن الاحتلال الإسرائيلي يجب أن يرحل عن الأراضي الفلسطينية. وهذا شكل وقح من ازدواجية المعايير الدولية. هذا السلوك موغلٌ في انحيازه للاحتلال الإسرائيلي، ودعمه بكل وسائل القوة لسلب الحقوق الوطنية الفلسطينية. في الوقت الذي تتحدّث فيه الولايات المتحدة عن العدالة ومنع مخالفة الشرعية الدولية، التي تنطبق من وجهة النظر الأميركية على الحالة الأوكرانية، ولكنها لا تنطبق على الحالة الفلسطينية، لأن الاحتلال إسرائيلي محمي من الولايات المتحدة.
من الطبيعي أن يُولّد الاحتلال مقاومة، ولا تأتي هذه المقاومة بالضرورة من القوى التي تدّعيها، ولكنها تأتي من الشعب وقواه الحية، وهذا ما اختبرناه في السنوات الأخيرة من خلال العمليات الفردية التي قام بها أفراد لا ينتمون إلى فصائل. وإذا كان سنونو واحد لا يصنع ربيعاً، فهو على الأقل يبشّر بالربيع، وهذا ما تشير إليه الحالة الفلسطينية التي باتت إجراءات الاحتلال تفرض عليها المقاومة، كممرّ إجباري لمقاومة وحشية الاحتلال.
لم تشهد التجربة الفلسطينية استقالات من فاعلين أساسيين من الساحة الفلسطينية لفسح المجال أمام آخرين لتجديدها
من مفارقات التجربة الفلسطينية، وعلى الرغم من الفشل المتكرّر الذي تعرّضت له، فإنها لم تشهد استقالات من فاعلين أساسيين من الساحة الفلسطينية لفسح المجال أمام آخرين لتجديدها. حتى التجربة الوحيدة في الاستقالة لجورج حبش من الأمانة العامة للجبهة الشعبية، فإن العارفين في وضع الجبهة يعرفون أنه بقي يقود الجبهة الشعبية فعلياً من خارجها، وحتى مركز الأبحاث الذي افتتحه بعد استقالته، شغل المبنى ذاته الذي كان يشغله أمينا عاما للجبهة.
منذ زمن طويل، تحتاج الساحة الفلسطينية إلى جيل جديد لقيادتها، لكن جيل المؤسّسين بقي ممسكاً بالقيادة على مدى نصف قرن، لقد دخل هذا الجيل في مرحلة الخرف من دون أن يستقيل أو يتنحّى. وبات السلوك السياسي لهذه القيادة كارثياً، ولن يكون آخرها ما فعله الرئيس محمود عباس خلال لقائه في أستانة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام عندما قال: "نحن فخامة الرئيس مطمئنون تماماً" لموقف روسيا تجاه الشعب الفلسطيني، وأضاف "روسيا تتمسك بالعدالة والقانون الدولي وهذا يكفينا"، فهو يعتقد أن هذا الذي يتحدّى كل العالم ويخالف أبسط قواعد المنطق يخدم القضية الفلسطينية التي هي أساساً قضية احتلال. لا أعتقد أنه من المناسب التعامل مع وضع فلسطيني كهذا بجدية، بل يجب التعامل معه بسخرية، فهي الشيء الوحيد الذي يستحقه الوضع بما فيه اتفاق المصالحة الجديد.