هل يثمر الحوار الليبي حلاً سياسياً؟
يشي الحوار السياسي الذي عقد، أخيرا، في كل من مدينة مونترو السويسرية ومنتجع بوزنيقة المغربية، بين الأطراف الليبية المتصارعة، بأن ثمّة جهودا إقليمية ودولية تبذل في سبيل البحث عن مخرج سياسي للأزمة الليبية، يمرّ عبر صياغة تفاهمات وتوافقات بشأن مواضيع عديدة، تطاول قضايا الحكم والدستور والإدارة، بغية التوصل إلى اتفاقٍ لتعزيز وقف إطلاق النار، الذي أعلن عنه كل من رئيسي المجلس الرئاسي فائز السراج، ومجلس النواب عقيلة صالح، الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، إضافة إلى التوصل إلى تسوياتٍ ومصالحاتٍ بين مختلف الأطراف الليبية.
وأفضت جلسات الحوار إلى التوصل إلى توافقات عامة بشأن مسألة إعادة هيكلة السلطة التنفيذية، من خلال تشكيل مجلس رئاسي، يضمُ رئيساً ونائبين له فقط بدلا من تسعة، وحكومة وحدة وطنية مستقلة عن المجلس، إضافة إلى مسألة اقتسام المناصب السيادية، وفقاً للمادة الخامسة عشرة من "اتفاق الصخيرات" الموقع في نهاية 2015 في المغرب، والنظر في إعادة هيكلة السلطة التنفيذية، وتحديد موعد إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، والتوافق على كيفية تعيين محافظ مصرف ليبيا المركزي وأعضاء المحكمة العليا والمفوضية العليا للانتخابات والنائب العام ودواوين المحاسبة والرقابة المالية وهيئة مكافحة الفساد. غير أن التوافق المبدئي على ذلك كله جرى على أساس توزيع المناصب السيادية بين أقاليم ليبيا الثلاثة، طرابلس وبرقة وفزان، الأمر الذي يثير مسألة الثمن الذي يمكن أن تدفعه ليبيا إن جرى التوزيع وفق مبدأ المحاصصة بين الأقاليم، كونه قد يفتح الطريق أمام تقاسم كعكعة السلطة في ليبيا بين الأطراف المتصارعة، وما يترتب عليه من تقسيمها الجغرافي بين تلك الأطراف. لذلك من المهم أن تتولى الأمم المتحدة رعاية حوار شامل يجنب ليبيا مثل هذه المخاطر، خصوصا بعد توافق الأطراف الدولية المتدخلة في الشأن الليبي على تسمية مبعوثٍ أممي جديد إليها.
توافقات عامة لتشكيل مجلس رئاسي يضمُ رئيساً ونائبين له فقط بدلا من تسعة، وحكومة وحدة وطنية مستقلة عن المجلس
وإذا كان من المهم جداً أن يصل الليبيون إلى رؤية لحلّ قابل للتطبيق على الأرض، بما يُبعد بلادهم عن مزيد من الصراع والخراب، إلا أن الاتفاق على المبادئ العامة غير كاف في حد ذاته، لأن الأهم هو التوافق على التفاصيل وواقعيتها ومدى قدرة الأطراف على تنفيذها على أرض الواقع، حيث ما يزال السجال بين الأطراف الليبية قائماً حول المقترح الأميركي، القاضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح، تمتد من مدينة سرت وصولاً إلى قاعدة الجفرة، وأن تكون مدينة سرت عاصمة لليبيا بدلاً من طرابلس، إذ تتطلب الموافقة عليه وضع آلية رصدٍ أمميةٍ لمراقبة وقف إطلاق النار، لكنها لا تحظى بقبول جميع الأطراف، خصوصا من اللواء المتقاعد خليفة حفتر. إضافة إلى مسألة اختيار مدينة سرت مقرّاً للرئاسة والحكومة، ومعها مختلف المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وكذلك ما تزال مسائل أخرى معقدة، وتستلزم توافقات، مثل اختيار رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه، وكذلك تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية.
وإذا كانت الضغوط والاتصالات الدولية قد دفعت الأطراف الليبية إلى الجلوس للتفاوض والحوار، إلا أن الضغوط الشعبية كان لها دور أيضاً في دفعها إليه، حيث عمّت التظاهرات الاحتجاجية على تردّي الأوضاع المعيشية والفساد المدن والمناطق الليبية، بشرقها وغربها، وامتدت إلى مناطق الجنوب الليبي. وعبّر فيها الشباب المحتجّون عن رفضهم ممارسات السلطات القائمة، والمشهد السياسي القائم برمته، وطالبوا بوقف معاناتهم نتيجة تزايد الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تعصف بهم، وتوفير الخدمات الأساسية، ومحاربة ظاهرة استشراء الفساد.
الاتفاق على المبادئ العامة غير كاف في حد ذاته، لأن الأهم هو التوافق على التفاصيل وواقعيتها ومدى قدرة الأطراف على تنفيذها على أرض الواقع
ولا شك في أن عناصر المشهد الليبي الكارثي دفعت الأطراف الليبية إلى مواصلة التفاوض، بغية التوصل إلى توافقاتٍ جدّية وبعيدة المدى، فإن المطلوب من المجتمع الدولي إعطاء الملف الليبي أهمية أكبر، وتفعيل الدور الأممي من أجل الابتعاد عن المناورة والمماطلة ورعاية وضبط السقف الزمني للحوار، وإلزام مختلف الأطراف بمخرجاته، بوصفه الطريق الوحيد إلى إنهاء الأزمة الليبية، وإعادة بناء مؤسسات دولةٍ جامعة، قادرة على وقف الانهيار الاقتصادي، وتأمين الخدمات وسبل العيش الكريم للشعب الليبي الذي أنهكته الحروب بالوكالة والانقسامات السياسية وفوضى السلاح والفساد.
وإذا كانت جلسات الحوار قد وصلت إلى توافقات لمرحلة انتقالية، وتفويض لجنة الحوار السياسي من أجل تقويم تنفيذ ما تمّ الوصول إليه، ومتابعته بشكل دوري، إلا أن تطبيق الخطوات التي اتفق عليها قد يستغرق وقتاً طويلاً، نظراً إلى اختلاف أجندات الدول المتدخلة في الشأن الليبي ومصالحها، والاختلاف بين القوى التي تتحكّم في الأقاليم الثلاثة، والانقسامات بين داخل كل طرف، ووجود أصوات رافضة للحوار السياسي، ولا ترى سوى الحسم العسكري مخرجاً للأزمة. لذلك لم تبد أطرف الأزمة الليبية استعدادها لإنهاء ظاهرة الاعتقالات غير القانونية، ولم تفعّل قانون العفو عن السجناء السياسيين، كما لم تقم بأي خطوةٍ من أجل تأمين العودة الآمنة للنازحين والمهجرين.
تطبيق الخطوات التي اتفق عليها قد يستغرق وقتاً طويلاً، نظراً إلى اختلاف أجندات الدول المتدخلة في الشأن الليبي ومصالحها، والاختلاف بين القوى التي تتحكّم في الأقاليم الثلاثة
وما تزال هناك خلافات عالقة بين ما يطرحه كل طرفٍ، بالنظر إلى وجود رؤى متباعدة حيال قضايا عديدة جوهرية للتسوية المرتقبة، حيث يؤكد المجلس الأعلى للدولة على ضرورة أولوية إجراء استفتاء على الدستور، قبل الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بينما يطالب رئيس مجلس النواب بأولوية إجراء انتخابات مجلس الرئاسة الجديد، إلى جانب وجود خلافات على مدة الفترة الانتقالية، وعلى أن تكون مدينة سرت عاصمة جديدة، ومقرّاً للسلطة الجديدة. يضاف إلى ذلك مسألة إعادة ضخ النفط الليبي، والتصرّف في عوائده، والتي يربطها بعضهم بالتوصل إلى تسوية شاملة، اجتراح نظام محاسبي موثوق فيه، وتشرف عليه الأمم المتحدة.
ويُظهر المشهد السياسي والميداني الليبي أن طريق التسوية السياسية ليس سهلاً، على الرغم من الاتصالات الدولية والإقليمية والضغوط الأميركية والداخلية، حيث تعترضها تعقيدات كثيرة، ذلك أن ما أنجز في بوزنيقة ومونترو رسم مساراً سياسياً عاماً للحل. والمأمول أن يستأنف الحوار بشكل رسمي وبرعاية الأمم المتحدة في الأسبوع الأخير من سبتمبر/أيلول الجاري، وأن ينبني على ما تمّ التوصل إليه، والدفع باتجاه التوافق على قضايا مهمة، مثل خروج المقاتلين وأسلحتهم من المدن والبلدات الليبية، وإعادة بناء جيش وطني موحد، بما يعني حل كل المليشيات وإخراج المرتزقة، وهي أمور مرهونة بإرادة الدول المتدخلة في الشأن الليبي ومدى مراعاتها مصلحة الشعب الليبي.