هل وصل العراق إلى كرة النار؟
رجعتُ الى السياسي العراقي العتيق، أسأله: كيف يرى الحال اليوم في بلاده... أجابني: "لم يعد العراق اليوم مركز الكون الذي تحدّثت عنه الأساطير، فقد هشّمته السياسات الهوجاء والأقدار القاسية على مدى عقود، حتى كادت أن تودي بكيانه الموحّد، وتجعله هشيما تذروه الرياح، وهو في هذه الأيام يوشك أن يصل إلى كرة النار. لا أحد يعرف كيف ستؤول الأمور، لا نعرف كيف ستسير الأمور بعد ذلك، نحن الذين اختبرنا السياسة واختبرتنا السياسة لم يعد سهلاً علينا أن نقول كلمتنا، فالأحداث اليومية في حالة سيولة، وتكاد تنعدم الرؤية في ملاحقة ما يجري".
واستطرد: "العراق الذي نعرف لم يعد مكاناً آمناً صالحاً للعيش، بعدما استوطنته المليشيات، واصطبغ كلّ ما فيه بلون الدم، ولم تعد بغداد بيئةً قابلة للتسويات أو للحلول الوسط، فقد انقطعت الخيوط بين كلّ الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي، كما لم يعد هناك رابطٌ بين ما يفكّر فيه السياسيون وبين ما يريده المواطنون الذين انصرفوا عن تأمل الواقع الماثل، وبعضهم أدمن اليأس، ولم يجد ضالّته إلّا في ارتياد مواكب اللطم والعزاء وزيارة القطّارات التي قيل إنّ أولياء الله مرّوا بها، والأماكن التي كانت مربط خيلهم، عساها تمنحهم البركة وتمدّهم بالعزم على مقارعة هموم الحياة، حتى ظهور المهدي الذي يجيء ولا يجيء!".
الأميركيون غير غافلين عمّا يجري هنا، فهذه الفوضى الخلاقة هم من صنعوها لنا
تابع: "العراق الذي نعرف لم يعد كما كان، فقد تحوّل إلى بلد مستباح يغشاه تدهور مريع، لا برلمان، لا حكومة، لا قضاء، لا صحافة حرّة، لا إعلام مستقلاً، لا كهرباء، لا ماء، لا خدمات، لا صناعات، لا زرع ولا ضرع، وكلّ من فيه حكّام فاسدون، ومليشيات سوداء، وأمن مفقود، وسلاح منفلت، ومليارات الدولارات تُنهب في وضح النهار، وجوعى يموتون على الأرصفة، وأجساد تتهاوى في القاع بفعل وحشي من فاعل معلوم. الأميركيون غير غافلين عمّا يجري هنا، فهذه الفوضى الخلاقة هم من صنعوها لنا، وهم من كتبوا دستورها، وهم من جمع الأفاقين واللصوص من أزقة العالم كي يحكمونا. أما الايرانيون فقد خطفوا بلدنا، وكل همّهم أن يجعلوا منه "ضيعةً" تابعة لهم تشكّل ممرّاً استراتيجياً نحو البحر، حيث سورية ولبنان وما وراءهما، وبما يوطّد مشروعهم التاريخي الذي يعملون عليه، وهم ينتظرون ساعة توقيع صفقة الاتفاق النووي مع الأميركيين، كي تشرع الأبواب أمامهم للتغلغل أكثر فأكثر في ديارنا، وللتحكّم في مآلات شعوبنا". أردف: "أما أصدقاؤنا فقد أشاحوا بوجوههم عنا، ولم يعودوا في وارد الاهتمام بنا، ولم تعد تصل إلينا منهم سوى رسائل رثاء وتعاطف كاذب، وسوى صدقات متواضعة، لا تكاد تصل إلى أفواه الفقراء، وصداقات تأخذ منا أكثر مما تعطينا".
أقدار العراق أصبحت مفتوحة على كلّ الاحتمالات
وقال: "إنّنا نعيش أزمات حقيقية، ما إن نسعى إلى حلها حتى تلد أخرى، والمفاتيح القديمة لم تعد تصلح لفكّ مغاليقها أو التعامل معها، والذين يراهنون على حلول قاصرة، وإصلاحات مؤقتة من قبيل إجراء انتخابات جديدة أو تغيير القضاة أو تعديل الدستور يكونون كمن يريد معالجة مريض السرطان بالحبوب المخدّرة التي تأخذه إلى الموت البطيء، وهذا ما نخشاه على بلدنا!"
سألته: ما الحلّ إذاً؟ أطلق زفرة طويلة قبل أن يجيب: "لا حلّ في الأفق، لا ضوء في آخر النفق، ربما نحتاج زمناً أطول كي نتحسّس جراحنا، ونتلمّس ملامح مشروعٍ ما، يمكّننا من استعادة بلدنا من أيدي خاطفيه والمهيمنين عليه. إننا اليوم نعيش ما يشبه تلك اللحظة التي شخّصها المفكر الإيطالي، أنطونيو غرامشي... القديم ينهار وهو في طريقه إلى الموت، لكن الجديد لن يولد بسهولة... والطريق بين نقطتي الموت والولادة لا يسير وفق خط مستقيم كما في علم الرياضيات، بل يبدو متعرّجاً متدحرجا على نحو حرج، وقد تواجه السائر عليه عقبات وعراقيل قد لا تخطُر على بال. إنّنا نوشك أن نصل إلى كرة النار، وكي لا نحترق نحتاج إلى فعل بمستوى الأخطار التي تحيق بنا، فعل من "قماشة" مختلفة، تعيد لنا هيبتنا، وللدولة سيادتها، ولمواطننا حريته، وكرامته، وحقوقه. وإلى أن يحين زمان هذا الفعل، وإلى أن يظهر رجاله، علينا أن نشد على جروحنا، وأن نكظم غيظنا، وحسبنا الله".
توقف السياسي العتيق عن الكلام، لكنّه لم يغلق الهاتف، ربما أراد أن يُشعرني بأنّ أقدار العراق أصبحت مفتوحة على كلّ الاحتمالات.