هل سيكون للديمقراطية كرنفال في البرازيل؟
في حين تضمّد أوروبا جراحها الناجمة عن فوز أحزاب اليمين المتطرّف أخيرا في انتخابات بعض دولها، كإيطاليا والسويد، تترقب أميركا اللاتينية بخوف وحذر هذا اليوم، نتائج الانتخابات الرئاسية في البرازيل المفترض نظرياً أن تطوي صفحة سوداء ليمين فاشيٍّ وصل إلى سدّة الرئاسة، بفضل تعاضد عناصر عدة، منها شعبوية الخطاب التعبوي المتطرّف، والذي حصد دعماً مالياً من كبار الأثرياء، ودعماً معنوياً من الكنيسة الإنجيلية، كما استطاع أن يجذب أصوات الفقراء المحبطين من نتائج حكم اليسار الذي يُفترض أن يحمي حيواتهم. وذلك كله لم يكن له أن يتم إلا على أنقاض تراجع أداء هذا اليسار وفساد كثير ممن تصدّوا لحمل رايته.
حكم النقابي اليساري لولا دا سيلفا البرازيل بين عامي 2003 و2010. وبعد انتهاء ولايتيه الرئاسيتين، قام بتقليد وشاح الرئاسة لوزيرته المفضلة ديلما روسيف، إثر فوزها بالانتخابات التي وضع كامل ثقله فيها لمصلحتها. وليستمرّ بذلك حزبه، حزب العمال اليساري، في حكم البلاد. وعلى الرغم من تلوّث بعض قيادات هذا الحزب في مستنقعات شبكات فساد متشعبة إبّان حكمها، إلا أنه تمت إعادة انتخابها بصعوبة سنة 2014، إلا ان شعبيتها انهارت بشكل كبير بسبب قضايا الفساد حتى عزلها مجلس الشيوخ سنة 2016 لأسبابٍ تتعلق بالتستر على الأرقام الصحيحة في الحسابات العامة. وقد تولّى الحكم بعدها دستورياً نائبها ميشيل تامر بانتظار موعد الانتخابات المرتقبة، والتي كانت ستجري بعد أقل من عامين.
لا مؤشّرات على إمكانية تدخل الجيش البرازيلي لوقف أي محاولة يمينية متطرّفة جديدة للقضاء على الديمقراطية
إثر تلك الانتخابات التي جرت عام 2018، وصل الضابط السابق جايير بولسونارو إلى منصب رئيس جمهورية البرازيل، حاصلاً على نسبة وصلت الى 55% من الأصوات. وعلى عكس المتوقع، فإضافة إلى أصوات الأثرياء، فقد صوّت له، إضافة إلى شريحة الفقراء، كثيرون من أفراد الطبقة الوسطى بعد خيباتهم المتصاعدة من نتائج سنوات حكم اليسار، وخصوصا تلكم الأخيرة في عهد روسيف، والتي عرفت تفاقماً في الفساد والمحسوبية وسوء إدارة الاقتصاد. جمع هذا الرجل في عقله وفي تصرّفاته بين كره اليسار بأشكاله كافة، والعنصرية الموجّهة خصوصاً إلى السكان الأصليين، والحنين المُصرّح به من دون خجل إلى زمن الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البلاد بين عامي 1964 و1985. كما شهدت البرازيل خلال عهد بولسونارو تعزيزا لعملية إبادة غابات الأمازون لصالح الشركات الصناعية والزراعية مع ارتفاع معدّل جرائم القتل بحق السكان الأصليين إن هم تآزروا للدفاع عن بيئتهم وأراضيهم. وكذلك ارتفعت نسبة الفقر إلى درجة كارثية، بعد أن تمكّن لولا خلال فترتيه الرئاسيتين من دفعها إلى التراجع بقوة. وأخيراً، وليس آخراً، تعامل الرئيس اليميني المتطرّف بخفّة منقطعة النظير تميّز بها كل نظرائه في الأحزاب اليمينية المتطرّفة في العالم مع وباء كوفيد 19، وصولاً إلى الاستهزاء بالكمّامات وبكل أشكال الوقاية الضرورية، ما أدّى إلى تجاوز عدد وفيات هذه الجائحة الستمائة ألف ضحية.
تزامنت فترة حكمه مع وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، والذي دعمه بشدّة. وذكّر هذا الدعم، باعتراف الولايات المتحدة، إبّان رئاسة ليندون جونسون، بانقلاب سنة 1964 العسكري بعد ساعات قليلة من قضائه على الحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطياً في برازيليا. وتوزّع أصدقاؤه الأوروبيون، إضافة الى ملهمه الأميركي، بين مارين لوبان الفرنسية وسالفيني الإيطالي واوربان المجري. وهم ممثلو اليمين المتطرّف الأوروبي الأكثر بروزاً. أما الأوروبيون الوسطيون فلم يقاطعوه، واعتبروا انتصاره انعكاساً لرغبة شعبية.
فشلت محاولات إصلاح القطاعين الأمني والعسكري في البرازيل منذ عودة الديمقراطية في 1985
منذ قرابة العام، يُنظّم بولسونارو استعراضاً نصف شهري لآلاف من الدراجات النارّية التي يحمل جُلُّ سائقيها أسلحة نارية في ما يشبه استعراض قوة وتحدٍّ في ظل تكراره رفض نتائج الانتخابات إن فاز فيها منافسه. حيث إنه، وانطلاقاً من ديماغوجية حادّة تبنّاها في أثناء حكمه، سمحت الدولة بتوسّع رقعة انتشار الأسلحة الفردية بين السكان، مُدّعية أن ذلك سيساعد على الحد من الجريمة. وقد انتقل عدد حاملي رخص السلاح من 115 ألف سنة 2018 إلى ما يقارب 670 ألفا هذا العام. ويدلّ هذا الرقم على انتشار حمل السلاح لدى كثيرين من أنصار الرئيس المهدّد بخسارة الانتخابات في صناديق الاقتراع. حيث تشير استطلاعات الرأي التي جرت أخيرا إلى تقدّم المرشّح لولّا وحصوله على ما يتجاوز 50% من الأصوات.
ومن خلال استعراض فشل محاولات إصلاح القطاعين الأمني والعسكري في البرازيل منذ عودة الديمقراطية سنة 1985، كما ضم الدولة البرازيلية خلال السنوات الأربع الأخيرة حوالي ستة آلاف عسكري سابق الى الوظائف المدنية المفتاحية لاجتذاب تأييد هذه المؤسسة الهرمة، يمكن الاستنتاج بأنه لا توجد دلائل على إمكانية تدخل الجيش لصالح بولسونارو إن تأكد فشل الأخير في الحفاظ على الحكم، والقيام بالتالي، احتراماً لتقاليده، بضربة جديدة للديمقراطية. في المقابل، من الواضح أيضاً أنه لا مؤشّرات على إمكانية تدخل هذا الجيش لوقف أي محاولة يمينية متطرّفة جديدة للقضاء على الديمقراطية.
والسؤال أمام مشهدٍ متوتّر: هل سيكون للديمقراطية كرنفال في البرازيل؟ أم أن الشعبوية المتحالفة مع رجال الدين ورجال المال ستُجدّد انتصار التطرّف اليميني؟