هل سرق ماكرون الانتخابات البرلمانية؟

26 سبتمبر 2024

متظاهر يلبس قناعًا لوجه ماكرون ويحمل دمية تمثل بارنييه في باريس (21/9/2024 فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

جاءت تشكيلة الحكومة الفرنسية التي أعلنها رئيسها ميشيل بارنييه، أخيراً، كي تنهي حالة المماطلة والتأخير التي لجأ إليها الرئيس إيمانويل ماكرون بغية منع وصول اليسار الفرنسي من تشكيلها، وتجيير الانتخابات البرلمانية (أُجريت جولتها الثانية في السابع من يوليو/ تمّوز الماضي)، لمصلحته ولمصلحة اليمين الفرنسي، على الرغم من خسارة معسكره الانتخابات، الأمر الذي يعني أنّه تمكّن من قلب نتائجها.

وبتشكيل الحكومة، تعود فرنسا إلى عهد الحكومات الائتلافية، وبما يمثّل سابقةً في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، وضمّت 39 وزيراً من أحزاب اليمين ويمين الوسط، وتوزّعت معظم مناصبها الوزارية بين شخصيات من "الجمهوريون" (اليميني التقليدي)، وحزب النهضة (يتزعّمه ماكرون)، إذ تولّى فيها الوزراء الموالون له وزاراتٍ رئيسةً، كالخارجية والدفاع والاقتصاد، في حين أنّ وزارة الداخلية ذهبت إلى حليفه اليميني برونو ريتايو، رئيس مجموعة اليمين التقليدي في مجلس الشيوخ، والمعروف عنه تشدّده حيال المهاجرين.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيتمكّن رئيس الوزراء الجديد من تمرير تشكيلته الوزارية في البرلمان الفرنسي، الذي سيعود إلى الانعقاد في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل، إذ واجهت التشكيلة الوزارية الجديدة، منذ اليوم الأول لإعلانها، رفضاً من قادة أحزاب الجبهة الشعبية الجديدة، ووصفها الأمين العام للحزب الاشتراكي أوليفيه فور بـ"الحكومة الرجعية التي تُشكّل استهزاء بالديمقراطية"، ولم يتردّد في القول إنّ حزبه سيطرح حجب الثقة عنها. أمّا زعيم حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلانشون، فاعتبرها "لا تحظى بأيّ شرعية سياسية"، وأنّه ينبغي التخلّص منها سريعاً. ودعا الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند إلى الإسراع في طرح حجب الثقة عنها.

لم تأتِ نتائج الانتخابات البرلمانية كما يريدها ماكرون، لذلك خرج عن التقاليد الديمقراطية برفضه اختيار مُرشَّح تحالف الجبهة الشعبية الجديدة لتشكيل الحكومة

تفيد لغة الأرقام بأنّ التشكيلة الوزارية الجديدة تحظى بدعم ما بين 215 و230 نائباً في الجمعية الوطنية الفرنسية من أصل 577 عضواً، بينما الأكثرية المطلقة تتطلّب 289 نائباً، وبالتالي فإنّ الحكومة الجديدة ستقع تحت تهديد حجب الثقة من طرف نواب أحزاب الجبهة الشعبية الجديدة (اليسارية)، ونواب حزب التجمّع الوطني (اليميني المُتطرّف)، الذي يبدو أنّ زعيمته مارين لوبان كانت موافقة على تكليف بارنييه بتشكيل الحكومة، لكنّها في المقابل تريد أن تقبض ثمن موافقة نواب حزبها على تمرير الحكومة في البرلمان، ويتوجّب على ماكرون دفعه، خاصّة على مستوى السياسات الداخلية التي ستتبعها الحكومة في مجالي التشدّد حيال الهجرة والأمن وسواهما، وبالتالي فإنّ دعوة ماكرون إلى تشكيل سدّ جمهوري لمواجهة زحف اليمين المُتطرّف قد تلاشت تماماً أمام مصالحه السياسية، وبات بقاء حكومة بارنييه أو حجب الثقة عنها مرهونٌ بإرادة نواب اليمين المُتطرّف.

يسود اعتقاد لدى بعض الأوساط السياسية الفرنسية بأنّه في حال عدم تمكّن الرئيس ماكرون من تمرير سياساته في الفترة المُقبلة، فإنّه قد يلجأ إلى خيار حلّ البرلمان في الصيف المُقبل، ولا يسمح له الدستور الفرنسي حلّه قبل مرور عام على الانتخابات. ويمثّل تمرير الحكومة الجديدة أولى الاستحقاقات أمامه، والأمر يتوقّف على مقدرته في الحصول على ثلثي أصوات النواب في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، وهذا ليس في متناول يده، لذلك فإنّ حجب الثقة عن حكومة ميشيل بارنييه سيُدخل فرنسا في بوابة تفاقم أزمتها السياسية، لكنّ المعسكر الرئاسي يستبعد ذلك بالنظر إلى أنّ اليمين المُتطرّف سينشغل في المرحلة المُقبلة بوقائع محاكمة لوبان، التي ستمثل أمام القضاء الفرنسي في بداية أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل، بتهمة اختلاس أموال أوروبية وصرفها لصالح حزبها، ما يعني أنّ اليسار وحده لن يتمكّن من حجب الثقة عن الحكومة الجديدة.

لا يتوقّف الأمر في فرنسا على الحكومة الجديدة، لأنّ الإشكالات والتحدّيات التي تواجه الطبقة السياسية الحاكمة كثيرة على المستوى الداخلي، وخاصّة الاقتصادي، وهي ناتجة عن السياسات النيوليبرالية التي اتبعها ماكرون منذ توليه الحكم في فرنسا، وتسبّبت في تردّي الأوضاع المعيشية لعموم الفرنسيين وخاصّةً الفئات الفقيرة والمتوسّطة. ولعلّ تمرير مشروع الميزانية للعام المُقبل سيُشكّل تحدّياً كبيراً للحكومة الجديدة، لأنّها تتطلّب توفير مليارات اليوروهات لسدّ العجز العام، الذي وصل إلى 5.6%، وقد يتسبّب ذلك في زيادة الضرائب، التي يرفض ماكرون فرضها على الأغنياء، فيما تشير تقارير اقتصادية إلى أنّ الحكومة الفرنسية يجب أن تُخفِّض إنفاقها بمقدار 55 مليار يور حتّى العام 2027. وقد حذّر الاتحاد الأوروبي فرنسا من فرض عقوبات عليها بسبب العجز الضخم، بالنظر إلى أنّ معاييره تفرض على أعضائه ألّا يزيد عجز الميزانية عن 3% من إجمالي الناتج المحلّي.

دعوة ماكرون إلى مواجهة اليمين المُتطرّف بسدّ جمهوري تلاشت أمام مصالحه السياسية، وبات مصير حكومة بارنييه مرهوناً بإرادة ذلك اليمين

تتجلّى المشكلة على المستوى السياسي في أنّ الانتخابات البرلمانية التي أُجريت أخيراً في فرنسا لم تأتِ كما كان يريدها ماكرون، لذلك خرج عن التقاليد الديمقراطية المتوارثة في فرنسا برفضه اختيار مُرشَّح تحالف الجبهة الشعبية الجديدة لتشكيل الحكومة، ولجأ إلى ألاعيبَ وحيلٍ، اعتبرها ماكرون إجراءات من حقّه اتخاذها، وأنّها لا تخالف القواعد الدستورية والقانونية المعمول بها في فرنسا، لكنّ قوى اليسار الفرنسي اعتبرتها وسائلَ من أجل سرقة الديمقراطية، وأنّ تلك الإجراءات لا تُعبِّر بشكل كامل عما حملته صناديق الاقتراع، وقد تمكّن عبرها ماكرون من التسلّل بين القوانين والنصوص، وراح يُؤوّلها حسبما يريد، بغية الالتفاف على خيارات الفرنسيين الانتخابية.

يعتقد 74% من الفرنسيين أن ماكرون تجاهل نتائجَ الانتخابات، بينما يعتقد 55% منهم أنّه سرقها، وذلك بحسب استطلاع أجرته أخيراً مؤسّسةُ إيلاب لاستطلاعات الرأي. ويلاقي ذلك ما تقوم به قوى اليسار ممثّلةً بأحزاب الجبهة الشعبية الجديدة، التي ترفض ما تعتبرنه "سرقة نتائج الانتخابات"، ولن تتوقّف عن سعيها من أجل حجب الثقة عن الحكومة، والمضي في محاولتها عزل ماكرون دستورياً، إلى جانب مواصلة التظاهرات الاحتجاجية الأسبوعية في المدن الكبرى، الأمر الذي سيزيد عمق الانقسام داخل البرلمان الفرنسي، وبما يجعل من الصعب إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وفق إجراءات وتشريعات تحظى بالإجماع.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".