هل ديمقراطية تونس من دون ديمقراطيين؟
مع تتالي الإجراءات الاستثنائية التي يعلنها في تونس تباعاً الرئيس قيس سعيّد، ملغياً، بشكل سافر، الدستور، واستحواذه على السلطات الثلاث، وتسخيره أجهزة الدولة الناعمة والصلبة، أي من الإذاعة إلى الأمن، وتنصيب نفسه حاكماً أوحد لا شريك له، ولا رادّ لأحكامه، تعود الأسئلة الأكثر إلحاحاً وإرباكاً، وهي التي تدور حول كيف حدث هذا كله، وبسرعة ضوئية، ومن دون مقاومة، باستثناء تحرّكات رمزية تظلّ قيمتها منحصرةً في أوساط ضيقة لا تجد صدىً واسعاً لها في الرأي العام، خصوصاً مع محاصرة إعلامية مطبقة؟
كان علينا في تونس أن نرتطم بجدار الانقلاب، لنكون أكثر تواضعاً بعد زهو العشرية المنصرمة التي كنا نردّد فيها ما قيل عنا إنّنا حالة استثنائية، وإنّ شمعة الربيع العربي صمدت على الرغم من كلّ الأنواء. يُطرب التونسيون حد الانتشاء حين سماع هذا الغزل الديمقراطي، ويضيفون إليه سردياتهم الوطنية التي يعتقدون أنّها صنعت المعجزة: دستور من أعرق الدساتير في العالم الإسلامي تم سنّه في أواخر القرن التاسع عشر، نخب تحديثية تعلّقت بالديمقراطية مبكّراً، وناضلت من أجلها، مجتمع مدني هو مزيج من تيارات يسارية وعروبية منعت دوماً الأنظمة من الانحراف نحو الشمولية، وخاضت معها صراعاتٍ مريرة، حركة إسلامية معتدلة، جيش جمهوري ظلّ ينأى بنفسه دوماً عن ألاعيب السياسة... كنا نطمئن إلى هذه التعويذة الديمقراطية، ونلجأ إليها. إنّها "بارديغم" متين يقدّم إجابات مقنعة للاستثناء التونسي، وإذا بنا نقع تحت الحالة الاستثنائية التي عُلّق فيها الدستور، وجرى العمل بالأوامر الرئاسية. لا شكّ في أنّ إغلاق القصبة، مركز رئاسة الحكومة، سيظلّ فعل استثناء كريهاً، ومقرّ رئاسة الحكومة لم يغلق منذ تاريخ الاستقلال أو قبل ذلك بكثير. كما أنّ صور الدبابة التي تقفل مجلس النواب لم تشهدها تونس حتى مع توقيع معاهدة باردو التي أصبحت تونس بموجبها تحت "الحماية الفرنسية" ... كيف تبخّر ذلك كله، لننتقل من "الاستثناء التونسي" إلى وضع تصبح فيه البلاد تحت حالة الاستثناء.
إنّنا أمام احتمالات أن يبعث الرئيس من أكفان التاريخ الاجتماعي للبلاد كلّ شروره التي خلنا أنّها اختفت
حدث ذلك كله، وسيحدُث مزيد من التجاوزات التي قد نتقهقر بموجبها إلى مجتمع ما تحت الدولة. لا ندري تماماً الوجهة القادمة، فها هو الرئيس يستعمل مصطلح الشركات الأهلية، متضمناً طيف الانتماءات إلى مجتمعات محلية، هي ما بقي من روح قبائل وأحياء وقرى ومداشر، حيث روابط القرابة والدم والتراب، وهي أقوى من روابط المواطنة. لا يقوم العيش المشترك هناك على قيم حديثة، بل قيم الجوار الترابي فحسب. إنّنا أمام احتمالات أن يبعث الرئيس من أكفان التاريخ الاجتماعي للبلاد كلّ شروره التي خلنا أنّها اختفت. وذلك سيجري تحت شعارات برّاقة على غرار المجتمع الأهلي، والأرض للشعب والسلطة للجماهير. نستمع، بين حين وآخر، إلى أصوات العقيد معمّر القذافي، غير أنه يتكلّم بلهجةٍ محليةٍ تونسية حيناً، وعربية فصحى، لا استعارة فيها ولا جمال، إنّها أقرب إلى آلة لغوية تتوعد دوماً.
تتكدّس الفرضيات التي يستحضرها التونسيون لفهم ما حدث وبهذه السرعة القصوى والعجز التام عن ردّ هذا القدر. لا يتردّد بعضهم في الاستنجاد بالمعجم الطبي، من أجل وصف ما يحدُث أو تحليله، فيقول من يقول إنّها جلطة دماغية أصابت العقل السياسي، ويقول آخرون إنّها البهتة/ الصدمة. وهناك من يضيف أنّه الشلل الفجائي. ولا يعتقد الكاتب أنّ هذه المفردات يمكن أن تقدّم تفسيراً مقنعاً لكلّ ما حدث. إنّها تصف ببلاغة الندم ما حدث، والحال أنّ بعضاً ممن يقف على الضفة الأخرى يتحدّث عن حركة تصحيح يستعيد فيها الشعب دولته وإرادته.
كانت الديمقراطية تسير مركباً تائها في محيط من الأحقاد والكراهية ونفي الآخر
منذ البدايات الأولى، كان هناك من يتابعون منعطفات الثورة التونسية الأكثر إرباكاً وحدّة: الصراعات الحادّة بين الفرقاء، الشرخ العميق بين الإسلاميين والعلمانيين، توظيفات المجتمع المدني في صراعات النفي المتبادل... إلخ. القدرة الكبيرة على التدمير الذاتي تحت معبد "عليّ وعلى أعدائي". وهذا كله مما يؤكد أنّ ديمقراطيتنا - نحن التونسيين - معتلة، ولن تصمد طويلاً حتى يتم ترسيخ التسويات التاريخية الكبرى، القائمة على قبول التونسيين بعضهم لبعض، ورسم حدود اللعبة السياسية، حتى لا تلتهم مساحات الصراع الدولة والديمقراطية ذاتها.
تمّ حشو كلّ تلك التسويات في الدستور المسكين، حتى ضاق بأشواق التونسيين المتناقضة ورغباتهم الخيالية. وما إن تم سنّه، حتى انتشروا مجدّداً لاستئناف معارك لم تعشها ديمقراطيتهم ولا أجيالهم: خلاف البربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، سيد قطب وإعدامه زمن جمال عبد الناصر... إلخ. المناكفات السياسية التي ذهبت مذهباً وجودياً كشفت عن هذه الرغبة في نفي الفرقاء السياسيين بعضهم لبعض. كانت الديمقراطية تسير مركباً تائها في محيط من الأحقاد والكراهية ونفي الآخر. هل يمكن أن تكون ديمقراطياً وأنت مستعدٌّ دوماً لهدم معبد الديمقراطية، حتى يسقط على من فيه، لمجرّد التخلص من الخصم الذي غدا عدواً؟