هل تندثر جماعة الإخوان المسلمين؟
في التعاطي مع الأزمة الراهنة التي تعيشها جماعة الإخوان المسلمين المصرية بين جبهتيِّ القائم بأعمال المرشد العام، إبراهيم منير، والأمين العام السابق لها، محمود حسين، نجد أن ثمَّة من بدأ يهيل التراب عليها، معلنين أن "إكرام الميت دفنه"، خصوصاً أن أزمات الجماعة غير محصورة في فرعها الأم في مصر، بل تطاول أماكن عديدة من ساحات وجودها. وعلى هذا الأساس، ثمَّة من يذهب إلى أبعد من ذلك، مستشرفين نهاية تيار "الإسلام السياسي" كليّاً.
الخلاصتان السابقتان تمثلان حكمين قيميَّينِ مفتقدين للموضوعية وللواقعية، وهما يدخلان في باب عسف القراءة والتحليل، وربما التفكير الرغائبي. هذا لا يعني أن جماعة الإخوان، بشكل عام، ليست أمام أزمةٍ هي الأخطر في تاريخ وجودها الذي قارب على مائة عام، بل العكس هو الصحيح منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس محمد مرسي في مصر عام 2013، وتحوّلها إلى خصم إقليمي وعدو لجلِّ النظام الرسمي العربي. لكن الحديث عن معضلات الجماعة وأزماتها بنيوياً، على الصعد الفكرية والاجتماعية والسياسية والتنظيمية والأمنية، بما يترتب على ذلك من تشتت بوصلتها وترنّحها وتقلّص حجمها وشعبيتها شيء، والحديث عن نهايتها وموتها شيء آخر. نحن أبعد ما نكون عن دفن جماعة الإخوان المسلمين وتشييعها إلى مثواها الأخير، كما أن "الإسلام السياسي" ليس في وارد التحلّل والأفول والتلاشي. إننا أمام مرحلة جديدة تشهد إعادة تعريف نفوذ تيارات "الإسلام السياسي" وشعبيتها (هذا مصطلح فضفاض، غير مضبوط نطاقه بشكل صارم، ولا معرفة حدوده بوضوح)، قد تكون مؤقتة أو دائمة، مدفوعة بالسحق الأمني والإعلامي اللذيْن تتعرّض لهما، ومترافقة مع التوهان الفكري والتفكّك التنظيمي. كثير من مستقبل "الإسلام السياسي"، وفي القلب منه جماعة الإخوان المسلمين، مرتبطٌ بمدى قدرته على تقديم ردٍّ ناجع وفعال للأزمات والتحديات التي يواجهها، وتاريخه حافلٌ بمثل هذا الانجاز. أما عن أسباب ذلك، فإليك بعضها.
كثير من مستقبل "الإسلام السياسي"، وفي القلب منه جماعة الإخوان المسلمين، مرتبطٌ بمدى قدرته على تقديم ردٍّ ناجع وفعال للأزمات والتحديات التي يواجهها
أولاً، تمثل إيديولوجيا "الإسلام السياسي" نبتاً عضوياً طبيعياً في تربة المنطقة العربية والإسلامية وبيئتها، بمعنى أنها ليست غريبةً عنه ولا مُقحمة عليه. والتنصيص الذي يتبعه هذا المقال عند كل إدراج لـ"إسلام السياسي" متعمّد مقصود، ذلك أن الإسلام كدين، كما تدل على ذلك النصوص القرآنية والخبرة النبوية، وبعدها المرحلة التي توصف في الإسلام السنيِّ بـ"الخلافة الراشدة"، فتالياً، وحتى في غالب مراحل "الإسلام الشيعي" وتجاربه، لا يعترف بفواصل وحواجز ما بين هو دنيوي وما هو أخروي، ولا يقيم الإسلام اعتباراً للفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي. هذه حقيقة، بغض النظر عن جدال بعضهم فيها من دون سند نصيٍّ أو تاريخي. وإذا كانت زاوية الاعتراض محصورةً في نقاش ما إذا كان ذلك التاريخ وتجربته وخبرته بناء على استلهامه النص، روحاً وممارسة، معياراً لا ينبغي الخروج عليه أو تطويره، فإن هذا يغدو أمراً مفهوماً، بغض النظر عن أي قناعةٍ وتحيز شخصي، أما محاولة إنكاره فإنه يضعنا أمام محاولةٍ فاقعةٍ للتزوير والتخليط.
في هذا السياق، وبسبب هذه الوطأة التاريخية والنَّصية، وارتباطها عضوياً بماهية الإسلام دينا ونطاق شموليته، فإن الوعي الجماهيري الإسلامي تَشَرَّبها، وهو قابل لتَشَرُّبِها مرّات ومرّات، مهما ضعف هذا المعطى عندهم في مراحل معينة، بغض النظر عن الأسباب، ومهما تعرّض هذا الوعي لمحاولات إعادة صياغة وتوجيه. بمعنى، أنه قادرٌ دائماً على استدعاء نفسه وتجديد طاقته وفرض ذاته وعقيدته. مرّة أخرى، النقاش هنا محصورٌ في المفاهيم من حيث النشأة والتكوين، وليس في صواب ممارستها ومقاربتها أو خطئه تالياً.
كثيراً ما كانت إيديولوجيا "الإسلام السياسي" إيديولوجيا مقاومة، وتعبيراً عن رفض كل أشكال العدوان والقمع والظلم
ثانياً، كثيراً ما كانت إيديولوجيا "الإسلام السياسي" إيديولوجيا مقاومة، وتعبيراً عن رفض كل أشكال العدوان والقمع والظلم. وبما أن العدوان لا يزال قائماً على أمة الإسلام، وهي ما زالت ترزح تحت أغلال القمع والظلم، فإنه سيكون من العبث استشراف اندثار طاقة المقاومة هذه، بغض النظر عن موقفنا منها ومن مضامينها. في فلسطين وفي أفغانستان وفي العراق وفي لبنان وفي ليبيا وفي سورية وفي كشمير وفي الصين وفي ميانمار… إلخ، دائماً ما كان الإسلام حاضراً في التعبئة في التصدّي لأي عدوان خارجي، كما أنه دائماً حاضر في التعبئة في التصدّي للإجرام والتوحش الذي تمارسه أنظمةُ محسوبةُ علينا، وهو دائماً حاضرٌ في التعبئة ضد ظلم الأنظمة وقمعها وفسادها وتخلفها. من لم يفهم السبب الأول الذي ورد آنفاً عن ماهية الإسلام دينا، وسطوة هذا الفهم في وعيِ أتباعه، فإنه لن يفهم النقطة التي نوقشت تواً.
ثالثاً، في ما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين تحديداً، يثبت تاريخها أنها تعرّضت لعمليات سحق وقمع دموي وحشي ومحاولات تشويه في غير ساحة، ومع ذلك ما لبثت أن أعادت بعث نفسها من بين ركام الحطام ومن بين رماد النيران. حدث هذا في مصر الناصرية، إبّان حقبة الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر. وحدث هذا في سورية، إبّان حكم الرئيس الراحل، حافظ الأسد. وحدث هذا في ليبيا، إبّان حكم الرئيس الراحل، معمر القذافي. ذهب هؤلاء، وتلاشت تياراتهم أو ضعفت، وبقي الإخوان المسلمون.
تمثل إيديولوجيا "الإسلام السياسي" نبتاً عضوياً طبيعياً في تربة المنطقة العربية والإسلامية وبيئتها
مرّة أخرى، من لم يفهم السبب الأول الذي بدأت به المقالة لن يفهم ما تلا ذلك، فإيديولوجيا "الإسلام السياسي" نبتٌ طبيعي في فضاء المنطقة وبيئتها، ومن ثمَّ فإن تسويغها في وعي الجماهير والشعوب سهل جداً، وهي تملك القدرة دائماً على بعث نفسها وتجديد خطابها وتبرير ذلك. أيضاً، من لم يفهم السبب الثاني أعلاه لن يفهم النقطة الثالثة التي نناقشها الآن.
لم تنجح التجربة الناصرية، وهي الأهم عربياً، في تقديم نموذج ناجح للدولة العربية، قومياً أو وطنياً. وطبعاً، نعلم أن التجارب الأخرى ليست أحسن حالاً. لم يحارب عبد الناصر الإخوان المسلمين بالحديد والنار فحسب، بل إنه نجح في تحشيد الرأي العام العربي ضدهم وفي شيطنتهم. ولكن هزائم مصر الناصرية أمام إسرائيل، خصوصاً في حرب 1967، ثمَّ فشله في بناء دولة تكون فخراً عربياً، وتأسيس حقبته لنواة الدولة الأمنية والعسكرية المصرية المتخلفة التي شهدناها عقودا، ونعايشها اليوم، كلها أسبابٌ قادت إلى تلاشي ألقه السحري، ولم يلبث الإخوان أن عادوا بعده أقوى مما كانوا عليه.
لن تكون هذه الحقبة استثناءً. صحيحٌ أن الإخوان في حقبة انقلاب عبد الفتاح السيسي أقلّ تمتعاً بحلفاء إقليميين مقارنة بما كان عليه حالهم في زمن عبد الناصر، وصحيحٌ أن النظام الرسمي العربي، تقريباً، رماهم عن قوسٍ واحدة، ولكن هذا لا يعني انعدام المُجيرِ والمتعاطف، كما في نموذجي قطر وتركيا. أضف إلى ذلك أن سيرورة فشل النظام الرسمي العربي وتزايد قمعه وفساده توفّر لهم فرصة سانحة لإعادة بعث فرصهم وإمكاناتهم. كما أن التحولات الجيوسياسية، دولياً وإقليمياً، مثل بروز القطب الصيني منافساً للقطب الأميركي، وتصاعد مشاكسات روسيا البوتينية، وتنامي الشروخ الغربية - الغربية وتعمقها على ضفتي الأطلسي، وداخل كثير من المجتمعات الغربية ذاتها، وتصاعد التوترات الإقليمية وأزماتها، كلها تنشئ مساحاتٍ جديدةً للـ"إسلام السياسي" لالتقاط الأنفاس وإعادة ترميم هياكله، وربما تجديد خطابه وتطويره.
لا يزال "الإسلام السياسي" قادراً على إعادة بعث نفسه، ولا تزال البيئة توفّر له هذه الإمكانية
حتى الانقسامات والتشظّي التنظيمي الذي يعانيه غير فرع من فروع الإخوان اليوم ليس أمرا جديدا. شهدت أوائل خمسينات القرن الماضي، بعد اغتيال مؤسس الجماعة ومرشدها الأول، حسن البنا، عام 1949، تمرّداً من الجناح العسكري للجماعة في مصر، النافذ حينها، والذي كان معروفاً بـ"النظام الخاص"، ضد المرشد الثاني، حسن الهضيبي. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن رموزاً كبرى في الجماعة ومكتب الإرشاد، كصالح العشماوي والشيخ محمد الغزالي وأحمد عبد العزيز والشيخ سيد سابق، أيّدوا هذا التمرّد، وكانوا ضمن عشراتٍ احتلوا المركز العام للجماعة وحاصروا منزل الهضيبي، محاولين إرغامه على الاستقالة. لكن جهودهم تلك باءت بفشلٍ كبير، وانتهى بهم الأمر مفصولين من الجماعة، وبقي الهضيبي مرشداً عاماً لها حتى وفاته، عام 1973، على الرغم من أنه سجن أغلب الوقت ما بين أعوام 1953 - 1971. اللافت هنا، وهو أمرٌ ذو دلالة، أن الهضيبي لم يكن رجلاً معروفاً ولا صاحب نفوذ ولا أثر داخل الإخوان عندما اختير مرشداً عاماً عام 1951، وإنما كان رجل التوافقات بين الكبار حينها، الذين تنازعوا المنصب، صالح العشماوي، وكيل الجماعة، وعبد الرحمن البنا، عضو مكتب الإرشاد وشقيق المرشد الأول ومؤسّسها، وعبد الحكيم عابدين، سكرتير الجماعة وزوج أخت البنا، وأحمد الباقوري، أحد القادة التاريخيين لها ومن مؤسّسيها. وقع اختيار هؤلاء على الهضيبي مفترضين ضعفه إلى حين ترتيب أوراق كل واحد فيهم، ولكن منذ ذلك الحين غدا واضحاً أن الشرعية التنظيمية في الجماعة تعلو على الشرعية التاريخية. الأمر ذاته نراه اليوم في صراع جناحي إبراهيم منير ومحمود حسين، إذ إن الغلبة، على الأرجح، ستكون لجناح منير، على أساس الشرعية التنظيمية، مع ضرورة ملاحظة أن منير وحسين يملكان التاريخ ذاته والعمق ذاته في ثنايا الجماعة، وهو ما يعطي منير أفضليةً على الهضيبي.
باختصار، صحيحٌ أننا نشهد تراجعاً حادّاً في شعبية تيارات "الإسلام السياسي"، وتفكّكاً وتشظيّاً في بنية الإخوان المسلمين، مترتباً، أو مترافقاً مع حملة أمنية وإعلامية وسياسية شرسة عليهم، أضف إلى ذلك العقم الفكري الذي يعيشونه، ولكن أيّاً من ذلك لا يعني نهايتهم، ولا يبرّر استبشار البعض بتشييعهم. لا يزال "الإسلام السياسي" قادراً على إعادة بعث نفسه، ولا تزال البيئة توفّر له هذه الإمكانية. الآن، هل يعود بما كان عليه من القوة والحجم والنفوذ والشعبية، وهل ينجح في تطوير خطابه وأدواته، وهل يتمكّن من تجديد شبابه، وهل يكون بصيغ ونسخ أخرى؟ تلكم مسائل أخرى تحتاج نقاشا في سياق آخر.