في جماعة "الأسد كان طاغيةً... ولكن"
ثمَّةَ من لم يعتد بعد على التعايش مع فكرة سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، ذلك أنهم استثمروا كثيراً من المداد والجدال في الدفاع عن "النظام الممانع" خلال تولّيه السلطة وتلمّس الأعذار له في جرائمه ضدّ شعبه، وكذلك عدم ردّه على الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة بحقّ بلاده. لا تعنينا هنا الفئة المؤيّدة للأسد ونظامه من منطلقات مبدئية وأيديولوجية وسياسية، فهؤلاء متّسقون مع ذواتهم، بغضّ النظر عن مدى فساد تلك الذوات. من يعنونا هنا فئة ثانية ممّن كانت تنافح عن نظام الأسد متغاضيةً عن جرائمه وبطشه وفساده باسم المصلحة العليا لفلسطين، وقوى المقاومة الإقليمية ضدّ إسرائيل. لكنّها، أي تلك الفئة، وبعد تحرير دمشق وفرار الأسد وانكشاف مستوى إرهاب نظامه الفظيع بحقّ الشعب السوري، بل حتى بعض الإشارات عن تنسيقه مع إسرائيل، تراها تحاول الموازنة بين الحقائق الدامغة الصادمة وما كانت عليه (في واقع الحال ما زالت عليه) من ترويج الأوهام والأكاذيب الزاهية عن حقيقة الرئيس المخلوع ونظامه الاستبدادي. بطرف من ألسنتهم يقول هؤلاء (الآن) إن الأسد كان مجرماً مستبدّاً.. "ولكن". والمشكلة هنا في هذه الـ"لكن"، يضيف هؤلاء أن سقوط نظامه أخلّ بالتوازنات لصالح إسرائيل، غامزين بشكل جليٍّ أو خفيٍّ من طرف الحكم الجديد في دمشق.
يرى جماعة "لكن" أن سقوط نظام الأسد أخلّ بالتوازنات لصالح إسرائيل، غامزين من طرف الحكم الجديد في دمشق
ذهبتُ في مقال سابق ("سورية والمناطق الرمادية في الموقف والتحليل"، العربي الجديد، 6/12/2024)، قبل يومين فقط من سقوط نظام الأسد، إلى أن ثمَّة مصالح متعارضة ظاهرياً في السياقين السوري والفلسطيني، وهو الأمر الذي يقتضي مقارباتٍ نسبيةً لا حدّية في القراءة والتحليل، وأن تكون هناك مساحات للتفاهم والعفو بين الطرفَين على خلفية تعقيدات المشهدين الماثلين أمامهما. ضعف إيران ومحورها في المنطقة يؤثّر سلباً في المدى الآني على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة. ولكن هذا لا ينبغي أبداً أن يتحوّل تأييداً لممارسات إيران وأذرعها الإقليمية من عبث وإجرام في المنطقة، أو النظر إلى إسرائيل حليفاً أو ليست عدواً وتهديداً للكلّ العربي. وقطعاً، ليس مقبولاً أبداً أن يدافع بعضهم، خصوصاً بين الفلسطينيين، عن أفعال نظام بشّار الأسد الشنيعة بحقّ الشعب السوري، بذريعة الممانعة المُتوهَّمة. من يقوم بذلك لا يخدم فلسطين، بل يمارس الدوْر نفسه الذي مارسه نظام الأسد عندما سمَّى أقذر وألأم فرع من مخابراته "فرع فلسطين"، وكأنه كان يريد أن يُكفِّر الناس بها وبعدالة قضيتها.
غير أن لا شيء ممّا سبق يعني جماعة "لكن"، وهم بالمناسبة من اتجاهات ومشارب سياسية وفكرية شتى، ومن جنسيات عربية متعددة. عبثاً يحاول هؤلاء أن يحافظوا على بعض ما تبقّى لهم من مصداقية مع انفضاح حقيقة "النظام الممانع" بناء على المعطيات والمعلومات، لا التحليل والشواهد فحسب. غير أنك لا تكاد تخطئ مقاصد أصحاب "لكن" في السياق السوري، إذ يفضحهم لحن القول دالاً عليها، حتى وهم يحاولون إخفاءها. تراهم يُصدِّرون زفراتهم بإدانة "طاغية الشام" و"نظامه الإجرامي"، وكأنهما مُخدِّر يرجون أثرهما في مُخاطبيهم، ثمَّ يدلفون إلى إدانة الثورة السورية وقيادتها اليوم ملصقين بها كلّ الخطايا والرزايا. فجأة، تذكّر هؤلاء أن الردّ على اعتداءات إسرائيل ينبغي أن يكون مباشراً لا في "الزمان والمكان المناسبيْن"، وهي المعادلة التي تبنّاها نظام العائلة الأسدية أكثر من نصف قرن. أيضاً، كان هؤلاء يجدون الأعذار لنظام الأسد عندما جعل من سورية خاضعةً لوصاية الإيرانيين والروس والمليشيات الشيعية من عدة جنسيات وخلفيات، كما كانوا يسوّغون له التواصل مع الأميركيين ومحاولة التسوية معهم، دع عنك التزلّف لمحور الثورات العربية المضادّة، ولكنّهم فاضوا وطنية وثورية فجأة متهمين الحكم الجديد في دمشق بأنه أداة تركية بتنسيق مع الأميركيين.
بقاء العرب خاضعين لأنظمة استبدادية لن يأتي بتحرير فلسطين أبداً
الكلام والأمثلة في تناقض المنطق السابق كثير يصعب حصره هنا، إلا أنّه يعرّي تهافت أصحابه وزور أخلاقياتهم المزعومة ووطنيّتهم المدّعاة. هذا لا يعني أن الحكم الجديد في دمشق متحرّر من العثرات والأخطاء، كما أنه لا يعني تقديم شيك على بياض له. سيكون الحكم عليه من خلال سياساته وممارساته، لا من خلال تصريحاته ووعوده. لكن، ليس من العدل ولا المنطق البدء في محاصرة التجربة الجديدة في سورية بالأحكام المسبقة والمطالب التعجيزية، وهي لم يمضِ على استلامها الحكم، الذي لم يدن لها كلّياً بعد، شهر واحد. إن حجم البؤس والفساد والدمار الذي خلّفه حكم عائلة الأسد على مدى أكثر من نصف قرن يحتاج عقوداً طويلة لإصلاحه، هذا إذا افترضنا غياب التحدّيات والمؤامرات الداخلية والخارجية على سورية، من دون أن ننسى احتمال ارتكاب أخطاء كارثية من أبنائها.
كلمة أخيرة، إصرار بعضهم على التستّر وراء فلسطين في دفاعه الضمني عن بشّار الأسد ونظامه يضرّ بفلسطين وقضيتها. إن كنتم صادقين توقّفوا عن وضع حرّية فلسطين في علاقة عكسية مع حرّية الشعوب العربية. فلسطين لن تتحرّر من دون اجتماع كلمة العرب، وبقاء العرب خانعين خاضعين لأنظمة استبدادية تريد استعبادهم لن يأتي بالتحرير أبداً.