هل تلحق الجامعة العربية باللاءات الثلاث؟
استطاعت جامعة الدول العربية، على الرغم من مواقفها الغامضة في أحداث كثيرة واجهتها، وعجزها عن تحقيق أهداف ميثاقها الذي تمحور حول توثيق الصلات بين الدول العربية والدفاع عن مصالحها وتنسيق خططها السياسية، وتوجيه جهود الأعضاء إلى تأمين مستقبلها، وتحقيق آمالها وأمانيها، استطاعت أن تقنع بعضهم برهةً بأنها تمثّل الحد الأدنى من الأماني والطموحات التي تحملها الشعوب العربية، والتي كانت يوماً ترتقي إلى الحلم بالوحدة العربية والمصير العربي المشترك وتحرير كل الأراضي المحتلة. فمنذ تأسيس هذا الجسم العربي في 22 مارس/ آذار 1964، وفق برتوكول وقّعت عليه آنذاك سبع دول عربية، وحتى هذا العام (2020) الذي احتفلت فيه الجامعة بالعيد الماسي لنشأتها، وقد اتسعت عضويتها لتشمل 22 دولة، شهدت محطات هامة، مِن اجتماعات على مستوى وزراء الخارجية إلى قمم عادية وطارئة، نُوقشت فيها مواقف كثيرة، وأُصدرت فيها قرارات عديدة، لعل أهمها قمة الخرطوم التي عُقدت عقب نكسة 1967، وعُرفت بقمة "اللاءات الثلاث"، حيث اتفق الحاضرون حينها على أنه لا سلام ولا اعتراف ولا تفاوض مع "إسرائيل"، تلتها قمة الجزائر العام 1973، وأكدت التحرير الكامل للأراضي العربية التي احتلتها "إسرائيل"، مع الإستمرار بالتلويح في استخدام النفط سلاحاً في المعركة مع هذا الكيان.
وقد تميزت تلك الحقبة بأن الإتصال من أي نوع مع الكيان الصهيوني هو خيانة وجريمة تستحق العقاب من كل الدول الأعضاء في الجامعة، وهذا ما حداها إلى الانعقاد في قمة بغداد سنة 1978، بعد توقيع الرئيس المصري أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل، واتخذ القرار حينها بتجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية، ونقل مقرّها إلى تونس، ووقف تقديم أي قروض أو مساعدات أو اتصالات سياسية، وعلى أي مستوى، مع الحكومة المصرية آنذاك. إلا أن التحول المحوري العلني في سياسة الجامعة كان في قمة فاس في المغرب في 1982، حيث، للمرة الأولى، جرى التطرّق إلى مصطلح "السلام" مع الكيان الإسرائيلي مشروعاً استراتيجياً، مقابل الانسحاب من كل الأراضي العربية التي احتلت عقب حرب يونيو/ حزيران 1967. وعلى الرغم من هذا التحول في سياسة الجامعة، إلا أن الأمناء العامين الذين تبادلوا الإشراف عليها، ابتداءً من عبد الرحمن عزام إلى الحالي أحمد أبو الغيط، لم يتركوا مناسبة إلا وأعلنوا فيها أنه لن تكون هناك أي علاقات طبيعية بين الجانب العربي و"إسرائيل" قبل حلّ القضية الفلسطينية بصورة عادلة ودائمة، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس (على الرغم من تراجعهم فيما بعد، والاكتفاء بالقدس الشرقية).
مؤكد أن اتفاقيات التطبيع العربية تأتي في إطار الاستراتيجيات التي يرسمها ساسة الكيان الصهيوني
ولا يمكن فصل سياسة جامعة الدول العربية عن سياسة الدول الأعضاء منفردة، التي راوحت ما بين علاقات بعضها مع "إسرائيل" في الخفاء وتلك التي احتفظت بنبرة الكفاح، والحق العربي، والقضية المصيرية، وتحرير فلسطين وغيرها، لكنها لم تحرّر متراً واحداً من فلسطين، بل استخدمت هذا الخطاب من أجل ترويج نظامها، وإحكام سيطرتها على حكم شعوبها، وإضعاف معارضيها، لأنها تعرف تماماً حساسية هذه القضية، بالنسبة إلى كل الشعوب العربية. وقد استخدمتها هذه الأنظمة في صرف مليارات من أموال هذه الشعوب، وتكديس الأسلحة في صفقات عسكرية ضخمة، لتوهم شعوبها بوهم القوة العسكرية، والتفوق الإستراتيجي. وهناك شواهد كثيرة على حقيقة هذا الوهم. فعلى سبيل المثال، ما صرفه نظام معمر القذافي في ليبيا سنوات سقط في أول اختبار له أمام القوة التشادية البدائية المحدودة التي استطاعت، على الرغم من محدودية إمكاناتها، أن تحتل إقليم أوزو الليبي في 1978. والمثال الآخر، عجز المليارات التي صرفتها السعودية والإمارات على شراء الأسلحة "المتطوّرة" عن هزيمة الحوثيين في حربٍ مستمرة في اليمن منذ أكثر من خمس سنوات، بل عجزت عن حماية الرياض من صواريخ هؤلاء! فهل من عجز عن حماية حدوده وأراضيه يمكن ان يُعوَّل عليه في تحرير أرض عربية تبعد عنه آلاف الأميال؟ الأمر الذي يعني أن فلسطين لم تستفد من تلك الأنظمة التي اتصلت سراً وعلانية مع الكيان الصهيوني، ولم ترَ خيراً أيضاً من التي اتخذت من أسلوب العداء لإسرائيل منهجاً وأسلوباً في الخطابة والشعر والنثر. وعلى الرغم من العداء الواضح بين المعسكرين، واتهام كلٍّ منهما الآخر بالتفريط في القضية الفلسطينية، إلا أن القاسم المشترك بينهما استغلالها للإستمرار في الحكم.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي في دول كانت تُمثل جناح المقاومة أو تدّعي ذلك، أدرك الجميع أن الصفقات والإتفاقيات مع "إسرائيل" وكسب ود الصهاينة هو المدخل الوحيد إلى البيت الأبيض، وبالتالي ضمان رضى سيده الذي يمكن أن يحميهم من عدوى هذه الثورات، خصوصاً أن الشعوب مهيّأة تماماً للثورة في هذه الدول. ولعل هذا ما سرّع بوتيرة التعاون والتطبيع بين "إسرائيل" وكلٍّ من الإمارات والبحرين، كذلك لا يمكن تجاهل التاريخ الذي اختير للتوقيع، حيث تزامن مع الاستعداد للإنتخابات الرئاسية الأميركية، ما يُظهر الرئيس ترامب القادر على حل قضية الشرق الأوسط التي ظلت عالقة سنوات، على الرغم من كل محاولات الإدارات الأميركية المتتالية.
لم نسمع، في السابق، عن أي حربٍ قادتها أو ساهمت فيها الإمارات حتى يصرّح مسؤولوها بأنها تعبت من الحرب
ولعل السؤال المطروح: ما الفائدة التي يمكن أن تجنيها الإمارات والبحرين من هذا التطبيع؟ وهل ستعود مثل هذه التنازلات بالفائدة على شعبيهما على أقل تقدير؟ ولكن لعل المضحك المبكي في الإجابة عن هذا السؤال، ما جاء على لسان المسؤولين في البلدين. فقد صرّح وزير الخارجية البحريني، عبد اللطيف الزياني، بأن "الاتفاق يمثل خطوة لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني والعمل على تجسيد المبادرة العربية". أما مديرة إدارة الاتصال الاستراتيجي في وزارة الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية، هند مانع العتيبة، فقد صرّحت في مقابلة طويلة مع صحيفة ”تايمز أوف إسرائيل" بأن "الشعوب العربية تعبت من الحروب، وتريد تحقيق الازدهار، والإمارات قرّرت تطبيع العلاقات مع إسرائيل لتحقيق السلام في المنطقة". وتأتي مثل هذه الأقوال وكأن الشعب الفلسطيني قاصر، ولا بد من أحد العقلاء لينوب عنه، فضلاً عن أننا لم نسمع، في السابق، عن أي حربٍ قادتها (أو ساهمت فيها) الإمارات حتى يصرّح مسؤولوها بأنها تعبت من الحرب. أما التنمية والإزدهار، فلا يمكن أن يكون من خلال التفريط والتطبيع مع من يحتلّ الأرض وينتهك العرض ويُدنّس المقدّسات. وفي المقابل، يكفي لمعرفة فائدة "إسرائيل" من هذه الاتفاقيات، أن نستشهد بما قالته رئيسة الوزراء السابقة، غولدا مائير، في 1974: "يخطئ من يتصوّر أن الحروب هي الفرصة لفرض الوجود اليهودي في العالم العربي، فقد تحدث الحرب نتيجة القوة الإسرائيلية القاهرة قناعات لدى العرب بعدم إمكانية التجاوز على إسرائيل وكل الأراضي التي وجدت عليها، ولكن الأصح من ذلك كله بناء علاقات اقتصادية مع العرب، أو جزء منهم، ليكون ذلك هو الطريق الذي يربط بين النيل والفرات ويعبر عليه اليهود". ومن المؤكد أن هذه الاتفاقيات تأتي في هذا الإطار من الإستراتيجيات التي يرسمها ساسة الكيان الصهيوني، والتي توضع وتُعتمد وتنفذ، عندما تكون الظروف الدولية والإقليمية مناسبة.
ما الذي تغير في الجامعة التي قاطعت نظام السادات، وتكتل كل الأعضاء ضده، فيما فشلت في إدانة التطبيع الذي قادته الإمارات والبحرين؟
ويدعو إلى الإستغراب موقف جامعة الدول العربية من هذا الإتفاق، فقد أسقطت الجامعة مشروع القرار الفلسطيني الذي يدين التطبيع الإماراتي مع "إسرائيل"، واكتُفيَ بتجديد التمسّك بمبادرة السلام العربية حلاً للقضية الفلسطينية، والتزام القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، من دون أن يدين التطبيع مع إسرائيل. وكان وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، قد صرّح بأن "الإعلان الثلاثي الأميركي الإسرائيلي الإماراتي كان ذلك الزلزال. وبدلاً من استرضائنا عربياً أمام ذلك التراجع الذي عكسه الإعلان، وجدنا حالنا ندافع عن أنفسنا، وعن قضيتنا، وانقلب الوضع، بحيث أصبحنا المشاغبين، ومَنْ يوجَّه إليهم اللوم، لأنهم، أي نحن، تجرّأنا على أن نقف في وجه الزلزال، كما وقفنا في وجه الإدارة الأميركية عندما اعتدت على حقوقنا". وأضاف المالكي في كلمته: "ما يهمنا كدولة عضو في الجامعة العربية نقطتان لا أكثر. الأولى تتعلق بمبادرة السلام العربية، حيث نسأل هنا إن كانت قراراتنا بخصوصها قائمة أو لا، وإذا ما زلنا ملتزمين بها كما جاءت، واعتمدت في قمة بيروت عام 2002. أما النقطة الثانية التي تعنينا، فهي طلبنا المتكرّر ألّا يتحدث أحد باسمنا، فنحن لم نخوّل أحداً بهذا الدور". وقال: "يبدو أن هشاشة الوضع في الجامعة العربية وحاجتها إلى الدعم المادي جعل قراراتها رهينة لسياسة بعض الدول، خاصة الغنية منها، والتي أصبحت تشكل مراكز قوة تسيطر على القرار داخلها، واستطاعت إملاء شروطها على الجامعة، وعلى كثير من الدول الأخرى التي أصبحت تدور في فلكها، إما خوفاً أو طمعاً". وإلا فما الذي تغير في الجامعة التي قاطعت نظام السادات، وتكتل كل الأعضاء ضده، فيما فشلت في إدانة التطبيع الذي قادته الإمارات والبحرين؟ فهل سيؤدي هذا الفشل إلى أن جامعة الدول العربية ستلحق بلاءاتها الثلاث، وتنتهي كما انتهت تلك اللاءات، أم أن صحوة عربية قد تعيد الجامعة إلى سِكّتها، وتبعث تلك اللاءات من مرقدها؟