هل تقع المعارضة المصرية ثانيةً في فخّ الحوار؟
مرّة أخرى، تتكرّر الدعوة إلى انعقاد المرحلة الثانية لجلسات الحوار الوطني، بعد تعليقه في أغسطس/ آب الماضي قبيل الدعوة للانتخابات الرئاسية التي جرت أخيراً. وكانت الحركة المدنية قد شاركت في فعاليات المرحلة الأولى، بالرغم من عدم تنفيذ أي من مطالبها المعلنة في مايو/ أيار 2023، التي ركّزت على احترام الحرّيات الأساسية والإفراج عن سجناء الرأي وفتح المجال للنشاط الحزبي والأهلي ومراجعة الإجراءات الاقتصادية التي يقوم بها النظام. وهناك عدة أسئلة في هذا السياق، أهمها: لماذا الدعوة في هذا التوقيت؟ ولماذا جرى تعليق المرحلة الأولى من الحوار؟ وما تقييمنا لمخرجات تلك المرحلة؟ وهل من المتصوّر أن تحقق المرحلة الثانية من الحوار مطالب المعارضة، وفي القلب منها الحركة المدنية؟
المشاهد أن هذه الدعوة تأتي في سياق ما يحدُث من تأزّم في الوضع الاقتصادي الداخلي وانخفاض العملة الوطنية وتزايد حجم الديون، ومحاولات إبرام اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي، والإبقاء على الخيارات نفسها التي يتبنّاها النظام من خلال بيع الأصول، ورفع سعر الدولار الرسمي ليقترب من سعره في السوق السوداء الذي تجاوز الـ 60 جنيهاً، وهو الذي لم يتجاوز عتبة الـ 50 في الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني). وفي المقابل، لم يجرِ النظام أي مراجعة لسياساته، بالرغم من كل الانتقادات التي توجهها المعارضة والخبراء الاقتصاديون بضرورة استبدال هذه السياسات بأخرى تحقق التنمية الحقيقية يجني ثمارها المصريون.
وحسب الدعوة المطروحة من أمانة الحوار، ستركز النقاشات هذه المرّة على الجانب الاقتصادي، ما يعني الإصرار على تجاهل إقرار أي إجراءات بشأن أوضاع حقوق الإنسان التي تعاني تردّياً غير مسبوق، والتي سبق أن طالبت بها الحركة المدنية ومنظمات حقوق الإنسان في مصر. ويبدو أن النظام يستهدف تحقيق غرضٍ آخر ليوحي للدول المانحة وصندوق النقد بوجود حوار وتوافق مع المعارضة بشأن الإجراءات لاقتصادية المستقبلية التي يعتزم القيام بها تنفيذاً لمطالب الصندوق وشروطه، سعياً منه للاتفاق على قرض جديد.
لم يجرِ النظام أي مراجعة لسياساته، بالرغم من كل الانتقادات التي توجهها المعارضة والخبراء الاقتصاديون بضرورة استبدال هذه السياسات بأخرى تحقّق التنمية الحقيقية
وحين يناقش هذا الحوار السياسات الاقتصادية، لا يستهدف تغييرها، أو الخروج من تلك الأزمة، بل يسعى لمجرّد إعطاء شكل ديمقراطي لنظام السيسي وحكومته. وللتذكير، سبق أن انعقد مؤتمرٌ اقتصادي في أكتوبر/ تشرين الأول 2022 في العاصمة الإدارية، وتبنّي مخرجات مؤيدة لسياسات النظام دون أي بادرة نقد ذاتي بإعادة النظر في المشروعات التي تقوم بها الدولة والتي تكلف الموازنة المليارات من الدولارات. كذلك اعتمدت الإدارة المصرية ما أسمتها وثيقة ملكية الدولة التي تؤشّر إلى عزمها على الاستمرار في السياسات الفاشلة نفسها التي سبّبت الأزمة الحالية! ورغم أن المؤتمر لم يطرح توصيات جذرية لإصلاح الاقتصاد المصري، إلا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي استهان بالمؤتمر، وقال إن أي طالب في كلية الاقتصاد يستطيع أن يخرج بهذه التوصيات، مشيراً إلى أن الأهم كيفية التنفيذ!
من جانب آخر، يثور السؤال هنا بشأن نجاح المنهجية المعتمدة للتوافق على الخطوط العامة لنتائج الحوار، خصوصاً لما حدث في المرحلة الأولى، التي ركّزت على المطالب الجزئية وغير المؤثرة. وقد سبق أن انتقدت الحركة المدنية تلك المخرجات وقتها، بالتأكيد أنها لم تتضمّن المطالب الأساسية لها، سواء في الجانب الخاص بالحرّيات أو حتى في الجانبين، الاقتصادي والاجتماعي، فعلى أي أساس سينعقد هذا الحوار الجديد؟ والسؤال الأساسي: هل ستشارك الحركة المدنية في حضور هذه الجولة كما فعلت في المرّة الأولى، بالرغم من انتقادها مخرجاته، تطبيقاً لـ"ما لا يُرفض كُلّه لا يُترك جُلّه"؟ أم تأخذ موقفاً مختلفاً؟
ستعطي مشاركة الحركة المدنية في الجلسات مشروعية لأي إجراءات اقتصادية تنوي الدولة اتخاذها في المرحلة المقبلة، ما سيؤدّي إلى فقدان المعارضة أي مصداقية لدى الرأي العام الداخلي
وقد رهنت الحركة موقفها في بيان صادر أخيراً بضرورة تنفيذ المطالب التي تقدّمت بها مراراً منذ انطلاق الحوار، والتي ركزت على تعديل قانون الانتخابات، ونظام الحبس الاحتياطي والإفراج عن المحبوسين بسبب رأيهم، وتخفيف القيود المفروضة على وسائل الإعلام. ولاحظ هنا استخدام كلمة "تخفيف" وليس إلغاء هذه القيود. ومع ذلك، لن تجد هذه المطالب من ينفذها أو يعتمدها أو يضعها في الوثيقة النهائية للحوار! كذلك لم تذكر الحركة مطالب اقتصادية محدّدة في هذا البيان، أو تؤكّد تحفّظها على السياسات المتبعة من النظام. ويبدو أن ثمة تجاهلاً رسمياً من الدولة باتجاه أي مطالب تخصّ الحريات وحقوق الإنسان، وهو ما ظهر في التعديلات الأخيرة لقانون الإجراءات الجنائية التي تجاهلت تعديل نظام الحبس الاحتياطي ومدّته، بل ألغت الحد الأقصى لهذا الإجراء من الأساس! وبذلك أطلقت يد النيابة العامة في توقيع الحبس الاحتياطي لما لا نهاية، كذلك يسترعي الانتباه التعديل أخيراً في قانون تأمين المنشآت الحيوية بمدّ صلاحيات القضاء العسكري في محاكمة المدنيين.
وبتقييم المرحلة الأولى من الحوار، نجد أنها لم تؤدّ إلى أي تغيير حقيقي في سياسات الإدارة، لا في الجانب السياسي ولا الاقتصادي. وستعطي مشاركة الحركة المدنية في الجلسات مشروعية لأي إجراءات اقتصادية تنوي الدولة اتخاذها في المرحلة المقبلة، ما سيؤدّي إلى فقدان المعارضة أي مصداقية لدى الرأي العام الداخلي، وقد يُحدث انقسامات تضاف إلى ما حدث من خلافاتٍ داخلها بسبب الانتخابات الرئاسية أخيراً. وعلى ذلك، يجب أن تضع الحركة المدنية هذه الاعتبارات في تقييم موقفها من المشاركة بشكل نهائي، وألا تكرّر ما فعلته سابقاً بالمشاركة المجانية، بالرغم من عدم تنفيذ أيٍّ من مطالبها السابقة والمعلنة. وعليها ألا تشارك لمجرد الحضور فقط، أو مقابل مكاسب محدودة بالسماح بزيادة التمثيل البرلماني لبعض أحزابها في الانتخابات المقبلة، من دون تعديل قانون الانتخابات بنظام القائمة النسبية وتأكيد وضع ضمانات لنزاهتها وشفافيتها حسب مطالب الحركة ذاتها.
في المحصلة الأخيرة، لن تؤدّي مشاركة المعارضة في هذه الجولة إلى تحقيق أيّ إيجابيات في ضوء غياب أي ضمانات حقيقية بوقف السياسات الاقتصادية الحالية، أو القيام بأيّ إجراءات إيجابية تعزّز من احترام الحقوق والحريات وتؤكد المشاركة في صنع القرار.