هل تحلّ عودة المحكمة الدستورية الأزمة الليبية؟

هل تحلّ عودة المحكمة الدستورية الأزمة الليبية؟

05 سبتمبر 2022
+ الخط -

لا تحتاج أهمية المحكمة الدستورية في أي بلد إلى تأكيد، فهي تستمد مكانتها وضرورتها من مكانة الدستور وأهميته، تمارس الرقابة على القوانين والقرارات ومدى توافقها مع الدستور الذي يعتبر التشريع الأعلى في البلاد، وأحكام هذه المحكمة في العادة قطعية وغير قابلة للطعن. وتكشف الممارسات والتجارب الدولية أن وجود المحاكم الدستورية أمر بالغ الأهمية في كل من المنظومة القانونية والسياسية في الدولة، فهي بذلك تقوم بدور حامي الدستور، وتعزّز سيادة القانون وتضمن تطبيقه بشكل عادل ومتساو على الجميع، كما أن لها دورا مهما أيضاً في إيجاد التوازن بين حقوق الأكثرية والأقلية، وتمكّنهم من رفع الشكاوى في حال انتهاك حقوقهم المحمية دستورياً. 
أًنشئت المحكمة العليا في ليبيا ومارست أعمالها، بما فيها الدائرة الدستورية، في عام 1951، وفق ما نصّ عليه الدستور الليبي في تلك الفترة والذي نظمها، وبيّن اختصاصها وطرق التقاضي أمامها، وقد أسهمت تلك المحكمة في الحفاظ على مبدأ توازن السلطات، وحماية المبادئ الدستورية من الانتهاك، سواء من السلطة التنفيذية أو التشريعية، إلّا أنّ معمّر القذافي، بمجرد وصوله إلى الحكم، أوقف التعامل بالدستور وبالتالي جمّد عمل هذه المحكمة. وفي عام 1977 أعلن عما تسمى وثيقة تنص على قيام "سلطة الشعب"، والتي لا تحتاج إلى دستور أو محكمة دستورية، حسب فلسفة هذه الوثيقة. وعلى الرغم من كل الانتقادات التي وجهت له ولطريقته الشمولية في إدارة البلاد، إلّا أن القذافي استمر في حكم البلاد بدون دستور، وباءت كل محالات ابنه سيف الإسلام في إقناعه بضرورة وجود دستور، حتى وإن كان صوريّا، من أجل تحسين صورة النظام لدى الغرب، فشلت، واصطدمت رغبته بتعنّت الحرس القديم الذي أقنع القذافي، أو أن القذافي أقنعه، بأن الدستور هو أحد الأدوات التقليدية التي تستخدمها الأنظمة الحاكمة في السيطرة على الشعوب، وهو لا يخضع لأي قدسية، ويتغير حسب هوى السلطة ورغبتها، حسب ما نصّت عليه نظريته.

أصدرت المحكمة العليا قرارا في عام 2016 يقضي بتأجيل النظر في القضايا المرفوعة، الأمر الذي عطّل كل الطعون والشكاوى

سقط نظام القذافي، وأصدر المجلس الانتقالي الإعلان الدستوري، ليكون أساسا للحكم في المرحلية الانتقالية، وبصفة مؤقتة إلى أن يتم التصديق على الدستور الدائم الذي انتُخبت من أجل إنجازه هيئة تأسيسية تكونت من 60 عضوا يمثلون أقاليم ليبيا الثلاثة، إلا أنه، وعلى الرغم من مضي أكثر من سبع سنوات على عمل هذه الهيئة، لم تتمكن من إنجاز مهمتها نتيجة مشكلات وصعوبات جمّة، من بينها حكم المحكمة الإدارية ضد رئيس الهيئة، علي الترهوني، الذي استبعد لكونه يحمل جنسية أخرى، ما يتعارض مع القانون الليبي. واستمر العمل بالإعلان الدستوري المؤقت، وتولت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا النظر في الدعاوى والطعون المرفوعة أمامها ولعل أهمها الطعن في عدم دستورية مقترحات "لجنة فبراير" والذي قبلته المحكمة شكلاً وموضوعاً، ما عنى حلّ مجلس النواب وكلّ المؤسسات المنبثقة منه، ذلك الحكم الذي أدخل البلاد في حالة من الفوضى والانقسام ما زالت آثارها مستمرة، فلا مجلس النواب قبل بحكم المحكمة، ولا المجلس الوطني العام رفضه، فاستمر كلاهما الى اليوم يساهمان بكل ما استقطبا من خبرات وقدرات في تمسكهما بالسلطة. أما المحكمة الدستورية فقد أصدرت المحكمة العليا قرارا في عام 2016 يقضي بتأجيل النظر في القضايا المرفوعة أمامها، الأمر الذي عطّل كل الطعون والشكاوى، وخصوصا المتعلقة بدستورية (وقانونية) الأجسام التي تتصدّر المشهد وتزاول أعمالها وتفرض قراراتها تحت غطاء القانون، وهي في الواقع تمارس سياسة الأمر الواقع الذي تفرضه بقانون القوة وسطوة المال.

الوضع الحالي أكثر انقساماً وتشظياً ساهم في دخول ليبيا مرحلة معقدة من أزمة سياسية، قوامها حكومتان وبرلمان ومجلس دولة

وفي خطوة مفاجئة، قررت المحكمة العليا، أخيراً، إعادة تفعيل الدائرة الدستورية التي أغلقتها قبل سنوات، من دون أن تكلف نفسها عناء إيضاح الأسباب التي جعلتها تتخذ هذا القرار المثير للجدل، فإذا كانت أسباب تعطيلها في العام 2016 يرجع، كما جاء في حيثيات قرار المحكمة، إلى الرغبة في أن يكون القضاء بمنأى عن الاصطفافات والانقسامات السياسية، فالوضع الحالي أكثر انقساماً وتشظياً ساهم في دخول البلاد مرحلة معقدة من أزمة سياسية، قوامها حكومتان وبرلمان ومجلس دولة، وجميعها تقتات على الاختلاف، وتستثمر في الأزمة، لأنّ استمرارها هو  الضامن الوحيد لبقائهم في السلطة.
قرّرت الجمعية العمومية للمحكمة العليا الليبية بالإجماع تفعيل الدائرة، وتعهدت في قرارها بأنّها "لن تنحاز إلى أيّ طرفٍ من الأطراف، وستعلي شأن الوطن والمبادئ والقواعد الدستورية المقرّرة". وبالتالي، فتحت الدائرة الدستورية، لكن فُتحت معها تساؤلاتٌ كثيرة، لا يملك إجابتها إلّا من أمر بتعطيلها، ثم "نفخ فيها الروح من جديد". الغالبية لا تعرف أسباب تجميدها ولا أسباب عودتها، ولكنها تعرف إنه ليس من أجل "إعلاء شأن الوطن". وسط مخاوف مبرّرة من تدخل السلطة القضائية على خط الأزمة السياسية المحتدمة في البلاد، والتي يدّعي فيها الجميع الشرعية والدستورية، وهم يدركون، قبل غيرهم، أن جميعهم فاقدون لها. وأضاف بعضهم أنّه ربما هناك نصوص يحاول المتنازعون فيها تقديم طعونٍ بخصوصها وربما تكون إعادة فتحها كان من أجل تمرير هذه الطعون أو نقضها لصالح بعض الأطراف.

مشكلة المواطن الليبي في نخب سياسية تسخّر كلّ هذه الأدوات لخدمتها وخدمة استمرارها في الحكم والتحكّم في كلّ مقدّرات البلد

عادت الدائرة الدستورية بقرار، وما زالت ردود الأفعال منقسمة بين مشكك في أهدافه، خصوصاً أنّه جاء في وقت يتفاقم فيه الانسداد السياسي في البلاد، ومرحبا به، باعتباره الخيار الأفضل لردع الأخطاء والتجاوزات الصادرة من مجلس النواب خصوصا. وبالتالي، إنهاء عبث القوانين التي يصدرها هذا المجلس وفق هواه، وبما يخدم مصالحه الضيقة. وفي الأحوال كافة، أصبحت الطريقة التي يتعامل بها متصدرو المشهد واضحة وضوح استماتتهم على البقاء في السلطة، وردود أفعالهم حيال أي قضية لا تقاس بمعيار مصلحة الوطن أو منفعة المواطن، بل بردّ فعل الطرف الآخر بشأنها، فإذا رحب معسكر رئيس الحكومة في طرابلس عبد الحميد الدبيبة بأي قرار أو خطوة، ينتقدها وعلى الفور معسكر عقيلة صالح (مجلس النواب) ويرفضها، والعكس صحيح أيضا. وهذا ما حصل حيال هذا القرار، فقد سارع الدبيبة إلى الترحيب بهذا القرار، قائلاً: "نبارك قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا بعودة تفعيل الدائرة علها تكون رادعاً للتجاوزات التي تمارس من الأطراف والقرارات المخالفة للاتفاق السياسي". وبالطبع، لا يمكن لمعسكر عقيلة صالح، إلّا أن يكون في الجانب الآخر، رافضاً له ومشكّكاً فيه، لا سيما أن الاختلاف فن يتقنه المجلس ويتفنن فيه.
في المحصلة، ما زالت ردود الفعل تتوالى بين النخب السياسية تحرّكها المصلحة الضيقة أو الاصطفاف المنفعي. أما المواطن الليبي فهو يعاني ظروفاً حياتية تجعل التفكير في الدستور والقوانين والمحاكم ترفاً لا يحلم به، ومثلما لم تتغير حياته، ولم تحلّ مشكلاته بتجميد العمل بالدائرة الدستورية، فإنّه على يقين بأنها لن تتغير إلى الأفضل، بإعادة العمل بها وفتحها من جديد، فمشكلته لم تكن أبداً في وجود قوانين أو قرارات، بل مشكلته في نخب سياسية تسخّر كلّ هذه الأدوات لخدمتها وخدمة استمرارها في الحكم والتحكّم في كلّ مقدّرات البلد، بما يخدم هذا الهدف. ويعجز جهاز قضائي عن استصدار أحكام قضائية ضد أمراء حرب وقادة مليشيات رغم جرائمهم العلنية والمتكرّرة، لن يكون قادراً على استصدار أحكام ضد حكومات مستعدة لفعل المستحيل، مسخرة المال والسلاح من أجل ذلك، وإذا تشجع وأصدر قراراً، فمن الذي سينفذه؟