هل ارتطمنا في تونس بالقاع؟
تقول إحدى أغاني الراب التي لاقت رواجاً منقطع النظير في الأشهر الاخيرة لدى أوساط الشباب التونسي: "آش ما زال ما رينا غرايب؟ آش ما زال ما رينا عجايب؟ آش ما زال زمان مخبي؟". وهي أغنية تعبّر عن توجّع من حالة العبث والغرائب التي حلت بالبلاد. إنّه زمن العجائب في تونس. لم يتوقع التونسيون لهذه العجائب أن تصل إلى هذه الدرجة، ومع ذلك كله الباب مفتوح لاستقبال مزيد من العجائب والغرائب، حتى التي أكثرها سوريالية. لا تشير الأغنية إلى حالة سياسية بعينها، لكن لا يمكن أن نستثني منها ما يجري منذ 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021) تحديداً.
في وقتٍ تلفظ الحملة الانتخابية أنفاسها في الساعات الأخيرة من يوم الصمت الانتخابي الذي لم يشكّل حدثاً لافتا، وقد أطبق الصمت كفّيه على حياة التونسيين عموماً، تعلن وكالة موديز للتصنيف الائتماني، تخفيض الرقم السيادي لتونس مع توقّعات سيئة قد تصل إلى عجز البلاد عن الإيفاء بالتزاماتها المالية. يأتي هذا الإعلان والبلاد تنتظر أن يعاد إدراج ملف ديونها الملحّ على طاولة الدرس لدى صندوق النقد الدولي، بعد تأجيل أول تزامن مع انتخابات الدور الأول من الانتخابات التشريعية. والغريب أيضاً أنّ البروباغندا الحكومية تبشّرنا بأن ابتسامة رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، خلال لقائها مديرة صندوق الدولي، كريستينا جورجييفا، على هامش مشاركتها في منتدى دافوس كانت كفيلة بحلّ كلّ المشكلات المالية العالقة للبلاد.
إلى أين تتّجه الأمور في تونس؟ يسألك الناس أينما حللت، سواء في داخل الوطن أو خارجه، من دون أن تكون لك إجابات مقنعة، بل إنّك تعجز حتى عن ترجيح فرضيةٍ على أخرى. خرجت السياسة من حقل المعقول، وهي أقرب إلى المصادفات والعبث. لم تعد كرامة الأولياء الصالحين التي يلوذ بها التونسيون عموماً كافيةً لأن تصون البلاد من السقوط في الكارثة.
للرئيس مشكلةٌ مع الأرقام عموماً، فهي خصمه اللدود
ألم نصل بعد إلى القاع؟ كان الرئيس في مسوّدة دستوره الذي كتبه بمفرده، بعد أن طرد زميليه في القانون الدستوري، وهو الذي تربّى على يد أحدهما ودرّس الآخر، قد ذكر أنّ البلاد عاشت أخيراً علواً شاهقاً في التاريخ. لا يدرك الرئيس أنّ عديدين من مواطنيه مصابون بالدوار حين يصعدون إلى الأماكن المرتفعة، كما لا يعرف أيضاً مثلاً هندياً قديماً يقول ما معناه أنّ الأصعب من صعود الجبل النزول منه.
تماماً مثلما رفض البنك الدولي أن يضع على جدول أعماله الملف التونسي، ها هي إحدى أهم الوكالات تُصدر تصنيفها الخطير، وهي التي علقت آمالها كلها على القرض الدولي، فميزانية 2023 قائمة على هذه الفرضية تحديداً. لا يدرك الرئيس حجم هذا الخراب والنذير الذي تنشره مثل هذه التقارير، بل تهكّم عليها ذات يوم، وقال بلهجتنا التونسية: "إنّها أمك صنافة" محيلاً ضمنياً إلى كتاب طبخ حاز طبعات شعبية عديدة، فيها تفصيل لأفضل الأطباق التونسية العتيقة والأصلية. عدّ بعض من الخبراء ذلك هجوماً نال من كلّ وكالات التصنيف السيادي، وقلّل من قيمتها وهوّن من توقعاتها، بل تحدّاها حين حرّضها على وضع تونس ضمن حرف الياء، وهو آخر حروف التهجئة، أي أن تتذيّل تونس آخر التصنيف، فهذا لا يعنيه في شيء. للرئيس مشكلةٌ مع الأرقام عموماً، فهي خصمه اللدود. قال معلقاً على النسبة الضعيفة للإقبال على الانتخابات في الدور الأول إنّ "9% هي أفضل من 99". وقبلها قدر المتظاهرين والمؤيدين له بما يناهز مليونا وثمانمائة ألف، والحال أنّهم لا يزيدون عن 1800 متظاهر، حسب وكالة أنباء أجنبية، كما يخلط دوماً بين مليار دينار ومليار مليم.
الرئيس، حسب رأيه، معنيٌّ بفكر جديد من شأنه أن ينقل البشرية من حالة إلى حالة
لم تعش الأجيال التي ولدت بعد الستينيات مثل هذا الوضع. أذكر، وأنا من أوائل جيل الستينيات، أنّ بعضاً من سكّان الأرياف وضواحي المدن اصطفوا في الطوابير لشراء مواد غذائية. هذا مشهد لم يتعود عليه التونسيون مطلقاً، لكن ها هم قد طبّعوا معه، هم يبحثون يومياً، وبشكلٍ مضنٍ عن الحليب أو السكر أو القهوة أو الزيت النباتي وغيرها من مواد غذائية مفقودة. وها هي شاحنات الأرز والحليب تشكل قافلة طويلة تدخل الأراضي التونسية من ليبيا من أجل "إغاثة" التونسيين، كما نقلت وسائل الإعلام الليبية. لا يمكن إلّا أن نحيّي تلك البادرة، لكنّ ذلك شكّل صدمة بالغة للرأي العام. لقد تيقن أنّ التونسيين وصلوا إلى تلك المرتبة ودولتهم تمد يدها، وإن عن مكابرة واستحياء مموّه، لا لتقترض المال، بل لتتسلم الغذاء. كان بلدهم، حتى في أحلك الفترات الذي شهدها: انفلاتات أمنية بعد الثورة، مليون لاجئ، هجمات ارهابية، يصدّر حليباً وزيتاً وسمكاً وخيرات كثيره من أرضه وبحره إلى جيرانه غرباً وشرقاً.
لا يهتمّ الرئيس بكلّ هذه التفاصيل التافهة، حسب رأيه، فهو معنيٌّ بفكر جديد من شأنه أن ينقل البشرية من حالة إلى حالة. إنه ثائر أممي، له مقاربة جديدة في البيئة والمديونية والتعليم... إلخ. وهو يوصي، قبل أيام، رئيسة حكومته التي أوفدها إلى منتدى دافوس، بإلحاح، أن تُعلم القادمين هناك من مختلف الدول: رؤساء وأصحاب شركات وأرباب أعمال أنّ البشر ليسوا أرقاماً إنما هم قيم. هل يمكن لرئيسة حكومة تستعطف هؤلاء حتى يمنحوها بعض الدراهم أن تُعطي لهم درساً من فكره الحكيم؟
لا يدرك الرئيس حجم الكارثة التي يسوق التونسيين إليها، وهي ليست مجرد كارثة اقتصادية اجتماعية: إفلاس قريب لم نصارح الناس به، ولم ندعهم إلى تحمله ولو إلى حين، فقر وشحّ مائي يلتهم الجميع، بل كارثة غذّت الانقسام الداخلي بين أبناء الشعب الواحد، عوض أن توحّدهم، وبدّدت الحد الأدنى من ثقافتهم السياسية التي جمعوها في دستور 2014. يقول بعضهم، وهو يقف على هول تشتت المعارضة: اتركوه يتوغل في يمّ غيّه فلعلّه يغرق ... لكن المؤكّد أن تونس ستغرق معه؟