هروبٌ من خوف إلى خوف .. لعبة التدليس الثقافي
اشتهرتْ لعلي الوردي كتبُه الخفيفة، المقروءةُ باعتبارها إشاراتٍ على النسق الثقافي وطبيعة الوعي لمجتمعات تتحدث اللغةَ العربية. كُتبٌ مثلُ "أسطورة الأدب الرفيع" أو "وعّاظ السلاطين" أو "خوارق اللاشعور" هي مجردُ مؤلفاتٍ مقبولةٍ من جلّ الناس وذات موضوعات مفيدة ومفهومة. ولكن الوردي لم يُصنّف عالمَ اجتماع بسبب هذه الكتب، بل بسبب كتبِه الثلاثة المتخصصةِ في مجاله؛ "مقدمة ابن خلدون" و"دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" ومؤلفِه الأكثر سعة وأهمية، ذي الأجزاء الستة والمعني بتاريخ الوضع الاجتماعي في بلاده خلال آخر أربعة قرون، "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق". ألّفه بين عامي 1969-1978، أي أنّه توقف عن تأليفه مع صعود صدّام حسين إلى الحكم بلا منازع، بل وتوقف عن تأليف أيِّ كتاب منذئذ. يُنقل عن مقرّبين عنه أنّ توقفّه ارتبط بانفراد مؤسسِ جمهورية الخوف في الحكم. كأنّ الرجلّ، الورديَّ، خشي مِن أنْ تكون مؤلفاتُه خاضعةً لتوجيه السلطة وتلاعبِها وضغوطها، وهو الذي رفض أنْ يكون وزيرا في حكومة عبد الكريم قاسم بعد انقلاب 1958، لأنه لم يؤمن بالعمل السياسي المباشر خيارا.
الثنائيةُ بين المشتغل بالثقافة من جانب والسياسة وظيفةً من جانب آخر، قضيةٌ مثيرةٌ للأسئلة في تاريخ الناطقينَ العربية. علي الوردي أحدُ تمظهرات الإجابات الحاسمة، وربما المتطرّفة، والقائمة على الفصل الكامل بين الاثنين. هناك آخرون اشتغلوا في الحُكم، وغيرُهم اشتغلوا في العمل الحزبي المباشر، هم تمظهرات تقدّم إجابات من نوع مختلف. ولكلٍّ مِن أولئك مبرّراته، غير أنّ مَن اشتغل في العمل الحزبي ثبُتَ مع التجربة عجزُه عن تمثيل روحِه الفكرية في مجاله. برهان غليون مثال مهم على ذلك، اشتغل في مؤسسة سياسية اعتمادا على ضرورة أنْ يكون واجهةً ضد نظام دكتاتوري، غير أنه عجِزَ عن تمثيل ما قدّمه من مقاربات فكرية وقناعات "معرفية" نحو أربعة عقود، كونه أصبح محكوما بتوازناتٍ وجبَ التعاملُ معها باعتباره سياسيا وليس معرفيا.
معارضةُ الاستبداد قاعدةٌ أقوى مِن غيرها لتبرير العمل السياسي المباشر، بالنسبة للمشتغل في الثقافة. في المقابل، هناك تبريرُ الاستبداد أو الدفاعُ عن المستبد. هنا يبرز نموذجٌ من المشتغلين بالثقافة خطيرٌ، نموذجُ المدافع عن الاستبداد، تارّة بنفي صفة "دكتاتور" عن مستبد، وأخرى بتبرير ذلك بضرورات قومية واجتماعية وثقافية.. أمثاله كثرٌ على مرّ التاريخ، هم الأداة الثقافية أو العقدية المعتَمدة في كل نظام متعسف. يوسف زيدان، راهنا، مثالٌ بات جليا. الرجلُ المعارض للإسلاموية، والناقد بطريقة ممتازة أنماطا كثيرة في التراث، والذي يسخر من تاريخ الجزيرة العربية باعتبارها مكانا لـ"سرقة الإبل"، لينفي بذلك صفة الحضارة عنه، هو نفسُه مدافعٌ عن دكتاتور مثل عبد الفتاح السيسي. المبرّر، كما هو سائد عند المدافعين عن القتلة، هو الآخرُ الإسلاموي.
من السهل أنْ يجد المرءُ شخصا يعارض بشار الأسد وأباه المستبدّينِ ويعبُدُ صدامَ حسين، بحجّة أنه تصدّى لإيران
لا تردّد في القول إن الإخوانَ المسلمين حزبٌ مخيف، لكن أنْ يتحول القولُ إلى تبرير الاستبداد المخيف أيضا، فهذا مخيف. هنا يأتي دورُ المشتغل بالثقافة أو المعرفي، بالسعي إلى تحرير المجتمعات من الخوف الفكري ناقدا الأنساقَ المثيرة للرعب، وليس مدافعا عن مخيفٍ مقابل آخر. ليس زيدان النموذجَ الأكثر صراحة من حيث وضوح الولاء للاستبداد، لكنه نموذجٌ أخطر، كونه يُخرج العلاقةَ بالدكتاتور إخراجا ثقافيا، حين يقول كاتبا على صفحته في "فيسبوك" "أعلن الرئيس السيسي أن العام 2022 عام المجتمع المدني، فلم يهتم بذلك أحد من الإعلاميين أو المعممين أو المدعين للوطنية، ولو على سبيل مجاملة الرئيس ومداهنته واهتموا بالفيلم"، مشيرا هنا إلى اللغط المُصطنع بشأن فيلم "أصحاب ولا أعزّ".
تبرز نماذج عربية عديدة تدافع عن الاستبداد، نماذج ثقافية خطيرة، تعطي الدفاع عن الدكتاتور أو النمط الدكتاتوري صبغةً معرفية وثقافية وفكرية، بمعنى أنها تُفلسف ظلمَ الناس. تلك النماذج التي عملت مع نظمٍ، مثلَ الليبي القذافي والمصري الناصري والجزائري البومديني... مبرّر وجود الآخر مثيرِ الرعب هو الذريعةُ الأكثرُ حضورا في "المنظومة" المنتجة المبرّرات والذرائع. من السهل أنْ يجد المرءُ شخصا يعارض بشار الأسد وأباه المستبدّينِ ويعبُدُ صدامَ حسين، بحجّة أنه تصدّى لإيران، حتى لو كان قد قتلَ شعبَه وأوصله إلى الانهيار ليجعله مؤهلاً للحالة الراهنة. مِن السهل، أيضا، أنْ نجد شخصا مشتغلا في الثقافة يعارض صدّاما كونه دكتاتورا ويوالي بشارا باعتباره "محور مقاومة"، على الرغم من كل جرائم الأخير. المعادلة باختصار هي فقدانُ البوصلة الأخلاقية في المنجز الثقافي العربي الراهن. لا توجد بوصلة ثابثة واضحة للأخلاق وللقيم العليا، بل هناك بوصلات من نوع آخر، عقائدية وطائفية وفئوية وعرقية.. بوصلات الأنا الجماعية.
تحول البوصلة الأخلاقية دون التناقضِ القاتلِ للمعرفة، تمنع الوصولَ إلى ازدواجية الشخص وضده في آن. وهذا ما هو مفقود في المنجز الفكري العربي أغلبِه. الاستبداد المعيارُ الأكثرُ دلالة، كونه الفعلَ الأكثرَ تناشزا مع أخلاقية الإنسان. قتلُ الناس وظلمُهم لأسباب سياسية أو عقائدية أو فئوية .. فعلٌ لا يمكن أنْ يكون أخلاقيا، وتبريرُه يمثل مأزقَ الثقافة في البلدان الناطقة بالعربية. هو مأزق العقل الجمعي.
النخب المشتغلة بالثقافة حين تتملق الجماعاتِ البشرية، وتتملق خلفياتَها الجماعية، هي بالضرورة تتملق الاستبدادَ
وغيرُ دقيقٍ القولُ إنّ المشتغلين في الثقافة وأيضا في الإعلام لا يؤثرون في العقل الجمعي، هم مؤثرون ومروّجون ومساعدون على إبقاء الأنساق الأخلاقية مزدوجةً، وتأثيرُهم لا يقلّ عن تأثير رجل الدين أو السياسي. يظل التأثيرُ سيئا على طول المشوار، أعادوا باستمرار إنتاج الكارثة وفق صيغ جديدة، وجعلوا العقل العام باستمرار مأسورا لكهوفه، كما يسمّيها فرانسيس بيكون. حتى معارضو الدين يغيّرون المضامين لكنهم يُنتجون الخطابَ الديني نفسَه. يحفزون النزعة الغاضبة في المجتمعات، ليدفعوها نحو الانقلاب على ما تعتقد بالطريقة نفسِها يوم كانت تحمل تلك الاعتقادات.
ذات مرة، قيل لي إن زميلا قديما لي، وكان ذلك قبل أكثر من 15 سنة، تغيّر خطابه. كان رجلَ دين متطرّفا وبات يفكر بطريقة مختلفة، ولأني كنت أحبّ في الرجل ذكاءَه، قرّرت زيارته برفقة صديقين آخرين. زرتُه فوجدته يجلس بطريقة منبرية، يضع حوله وسادتين ويتحدّث وكأنه الشخصُ نفسُه الذي عرفته قبلئذ. تغيّرَ مضمونُ خطابِه، لكنه بقيَ هو، رجلَ دين يريد أتباعا ومناصرين يوجههم، لا كي يساعدَهم على اكتشاف طريقِ التفكير المستقل عن الآخرين.
لهذا يمكن الاختلافُ اختلافا صريحا مع فرضية أنّ المشكلة هي الدين فحسب. المشكلة أنّ الجماعاتِ البشرية حين يطغى خوفها وتتعمقُ هزائمُها ويغيب أفقُها، تنتج نمطَها العقائديَ المتطرّف والغوغائي. هي لا تفعل ذلك بنفسها، بل تُنتج نخبا مهمتُها تكريس هذا النمط وترويجه والدفاع عنه، فالمشكلة الراهنة، أي غلواءُ العقيدة، هي نتاج مشكلةٍ أخرى، تكمن في أن صانعي رأي الجماعات البشرية الخائفة، يتملقونها بإنتاج ما تريد والحفاظِ على ما تحبّ وما تشاء، أي الغلواء.
النخب المشتغلة بالثقافة حين تتملق الجماعاتِ البشرية، وتتملق خلفياتَها الجماعية، هي بالضرورة تتملق الاستبدادَ، وحين تنتفض المجتمعات على الاستبداد تنساق خلف المجتمعات ليس كرها بالاستبداد، بل تماشيا مع المجتمع نفسِه أو تماشيا مع أسباب أخرى، ليس من بينها رفضُ الدكتاتورية باعتبارها ظلما. لهذا، رأينا كيف انقلب مشتغلون عديدون في الثقافة على المستبد حين أجبرتْهم انتماءاتُهم على ذلك. هناك خوفٌ وخشيةٌ من نقد الثابت إلى أنْ يرفضه المجتمع نفسُه، عندها يجري نقده، ولكن بما ينسجم مع حدود المسموح به مجتمعيا، أي في حدود ما يريده الجمعُ، لذا ليس مصادفة أن "الإجماع" أحد أهم قواعد الفقه لدى المذاهب كافة تقريبا.
أنصارُ عمر البشير في السودان كانوا ضد الانتفاضة المعارِضة له، والآن هم أنفسهم يبرّرون الثورة ضد النظام باعتباره نظاما انقلابيا عسكريا
تلك النخب طائفية، طائفية بطريقة مخفية أحيانا وصريحة أحيانا أخرى، وحين يتخلص المجتمع من بعض أنماط طائفيته تنساق النخب إلى رفض الأنماط تلك، لكن من دون نقد الرغبة بالطائفية بحد ذاتها، فمن السهل في مجتمعات عربية أن يجد المرء حالةً مِن رفض العداء للمسيحيين لأن الموجة العالمية فرضت ذلك، وليس لأن العداء للمسيحيين فعلٌ طائفي مقيت. كثيرون من رافضي هذا العداء، من النخب، ينبرون للدفاع عن الصراع السني الشيعي بطريقة إضفاء شرعيةٍ وفق تفسير معيّن واصطفاف صريحٍ حادٍّ أو خفي، تارّة دفاعا عن استبداد المجتمع وأخرى دفاعا عن استبداد ينتجه المجتمع.
لذا يُعاد إنتاجُ المستبدّ على مدى عقود في البلدان الناطقة بالعربية، وتتكرّسُ الرغبةُ الثقافية في الاستبداد. بل إن الدكتاتورية تُنتج أنماطا جديدة، تعيد إنتاجَ نفسها بصور جديدة. من أهم أسباب ذلك هو الخطابُ الثقافي، الخطابُ الرافض الظلم ليس لكونه ظلما مجرّداً مِن رؤية مَن هو المظلوم، بل لكونه ظلما واقعا على جماعة بعينها.
في العراق مثلا، كان أنصار المليشيات غاضبين من تظاهرات تشرين عام 2019 باعتبارها سببا في زعزعة الأمن وتغلغل الأعداء، غير أنهم حين تظاهروا بعد الانتخابات أخيرا رفضا للنتائج، وظلوا مصرّين على موقفهم، وأقاموا الخيامَ والاعتصامات، عدّوا ذلك حقا، حتى لو انعكس على الأمن. وأنصارُ عمر البشير في السودان كانوا ضد الانتفاضة المعارِضة له، والآن هم أنفسهم يبرّرون الثورة ضد النظام باعتباره نظاما انقلابيا عسكريا، متناسين أن صاحبَهم نفسَه كان انقلابيا وعسكريا.