هذا الترحيل المهين في تونس

10 يوليو 2023

مهاجرون أفارقة في صفاقس يستقلون قطاراً نحو تونس (5/7/2023/فرانس برس)

+ الخط -

شرعت السلطات التونسية في ترحيل آلاف المهاجرين من مدينة صفاقس (250 كلم من جنوب العاصمة) وهي التي تحوّلت، في الأيام القليلة الفارطة، الى ساحة مواجهةٍ مفتوحةٍ بين مهاجرين قادمين من بلدان جنوب الصحراء ومتساكني (سكّان) المدينة. كان ذلك متوقّعا في ظل الخطاب التحريضي الذي افتتحه رئيس الجمهورية ضدّهم مند يوم 21 فبراير/ شباط الفارط. 
كان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، آنذاك، قد أكد أن هجرة هؤلاء مؤامرة خطيرة  منخرطة في إجرام يستهدف سلخ البلاد من هويتها العربية وقصرها على هوية أفريقية  فحسب، وهي جهود شرّيرة تحرص على تغيير التركيبة الديمغرافية للبلاد. إثر هذا الخطاب، اندلعت أعمال خطيرة نالت من حقوق هؤلاء، حتى الإنسانية الدنيا منها. وثقت عدّة منظمات وطنية ودولية تلك التجاوزات الخطيرة، كما صدرت عدّة مواقف عنها، تندّد بهذه المواقف التي عدّها بعضهم عنصرية. أُربكت السلطات التونسية أمام ردود الأفعال تلك، خصوصا التي صدرت عن البنك الدولي ومنظمّة الهجرة العالمية ومنظمة الوحدة الأفريقية ... إلخ.
حاولت السلطات التونسية لاحقا التدارك وتخفيف وطأة تلك المواقف من خلال جملة من  البيانات الصادرة، سواء عن رئاسة الجمهورية أو وزارة الخارجية أو اللقاءات الديبلوماسية. تلقفت بعص الدول الأوروبية هذه المواقف، وتحديدا إيطاليا، من أجل ابتزاز تونس، ودفعها إلى أن تكون شريكا فاعلا فيما تسميها الجهود الدولية لمكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية. استغلت إيطاليا الصعوبات المالية التي تمرّ بها تونس، وتعثّر مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، من أجل عرض ما يشبه الصفقة، تتولى بموجبها إيطاليا التوسّط لدى الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي معا من أجل أن تبدي تونس عزما أكثر وضوحا في التصدّي للمهاجرين.

تحوّلت مدينة صفاقس، ولاعتبارات عددية، في الأشهر الفارطة إلى عاصمة الهجرة غير النظامية

على الميدان، تراجعت أعداد المهاجرين، سواء الذين دخلوا تونس بشكل غير قانوني أو الذين استعملوها فضاء عبور، وذلك حسب إحصائيات السلطات الإيطالية، وحتى التونسية أيضا. وسجلت  الثلاث الأشهر الأخيرة أدنى الأرقام مقارنة مع الخمس السنوات الأخيرة.
قبيل زيارة وفد الاتحاد الأوروبي الذي قادته رئيسة المفوضية، أورسولا فون ديرلاين، مصحوبة برئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، ورئيس  وزراء هولندا، مارك روتا، زار قيس سعيّد صفاقس، والتقى بالمهاجرين فيها، وخاطبهم مباشرة، وقال إنهم ضحايا النظام الدولي غير العادل. حاول الرئيس، في كل مرّة، أن يبدو ثائرا أمميا مناهضا للعولمة والنظام المالي العالمي والعولمة. ضرب في هذه الزيارة عصفورين بحجر واحد: دحض تهمة العنصرية عن مواقفه السابقة وبعث رسالة إلى الوفد الأوروبي الذي سيصل إلى البلاد بعد ساعات قليلة فحسب، إنه لن يكون كما قال لهم "حارسا لأحد".
تحولت مدينة صفاقس، ولاعتبارات عددية، في الأشهر الفارطة إلى عاصمة الهجرة غير النظامية، يقصدها آلاف المهاجرين الطامعين في ركوب قوارب الهجرة. معطيات متعددة حولت هذه المدينة إلى "بؤرة هجرية" شديدة الجاذبية: قربها من المدن الإيطالية، ميناء صيدها البحري الكبير، بعدها عن العاصمة وقربها من الحدود الليبية التي يعبرها المهاجرون قادمين إليها، النشاط الاقتصادي الذي يميّز هذه المدنية واستيعابه أعدادا من المهاجرين كيد عاملة رخيصة، فضلا عن ورشات صناعة القوارب التي تحوّلت إلى تجارة مربحة، رغم المآسي التي خلفتها.

أعمال عنفٍ شنيعة اندلعت ما إن حدث شجار قاتل راح ضحيّته مواطن تونسي سجلت فيها تجاوزات خطيرة

يفد على المدينة آلاف المهاجرين في مناخ انحرف فيه الرأي العام في الأشهر الأخيرة كثيرا نحو نزعات عنصرية متطرفة مناهضة للمهاجرين. وتؤكّد الصور النمطية التي تطفح بها شبكات التواصل الاجتماعي هذه النزعة الخطيرة، حتى إن أعمال عنفٍ شنيعة اندلعت ما إن حدث شجار قاتل راح ضحيّته مواطن تونسي سجلت فيها تجاوزات خطيرة. ظلت المناوشات تجري من دون أن ينجح الأمن في كبح جماع تلك الحشود المنفلتة التي اقتصّت بيدها مباشرة من كل المهاجرين من دون تمييز: تم طرد عائلات بأكملها من منازل مسوغة، وتم سلب القليل مما يمتلكون فضلا عن أعمال عنفٍ طاولت عديدين منهم، من دون أن يرتكبوا أي جرم.
شكّل ذلك تحولا خطيرا في سلوك التونسيين تجاه المهاجرين. لقد حلّ القصاص محل الاحتكام لسلطة القانون. إنها من المرّات النادرة التي يلجأ فيها المواطنون إلى تنفيد قانونهم الخاص، جرى ذلك كله تحت أعين الأمن. وتفيد "الاتفاقية الأممية لحماية حقوق المهاجرين وأفراد عائلاتهم"، المعروفة باتفاقية 18 ديسمبر، اختصارا، بأن للمهاجرين، مهما كانت وضعيتهم القانونية، حقوقا محفوظة. ورغم أن تونس لم تصادق عليها، فإنها صادقت على مواثيق ومعاهدات دولية عديدة تحفظ لهؤلاء حقوقهم الإنسانية.
دفعت تلك الأعمال الانتقامية التي طاولت المهاجرين إلى فرار هؤلاء من المدينة، وقد أعدّت لهم السلطات حافلاتٍ وقطاراتٍ أقلتهم إلى وجهاتٍ عديدة على مقربةٍ من الحدود الليبية والجزائرية  في ظروف غير إنسانية: موجة حرارة قياسية، افتقاد الحد الأدنى من المرافق، فضلا عن غياب أي مرافقة طبية. لم تتمكّن منظماتٌ إنسانية عديدة، على غرار الهلال الأحمر التونسي، أو حتى الصليب الأحمر، من أداء واجبها. والخطاب المناهض للمهاجرين فضلا عن سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قد يدفعان مجدّدا إلى انتهاكات عميقة لحقوق هؤلاء المهاجرين. على مستوى الخطاب، لن تحرس تونس حدود أحد، غير أنها، بمثل هذه الأفعال، شريك خدوم في محاربة المهاجرين القاصدين تلك القلعة الأوروبية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.