هدية الله: عشر سنوات من الوثنية السياسية
هل بقي أحد، يمتلك عقلًا يفكّر، وحسًّا يستشعر، يساوره شك في أنّ مصر بعد العام الأوّل من العشرية الثانية لما جرى في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، بلغت حدّاً من الهُزالِ السياسي والبؤس الحضاري، باتتْ معه تبرّر عجزها وتخبّطها في الظلامِ بأنّ الكيان الصهيوني منع عنها كميات الغاز الطبيعي؟
هذا هو العذر الأقبح من الذنب، إذ لم يكن أحد يتصوّر أن يصل النفوذ الصهيوني إلى حدِّ التحكّم في ساعاتِ الإضاءة والإظلام، تمامًا كما لم يكن أحد يتخيّل أنّه بعد تسعة أشهر من العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، بما شهدته من أعمالِ تطهيرٍ عرقي وإبادةٍ جماعية، أن يكون الموقف الرسمي المصري على هذا النحو من الابتعاد كليّاً عن استحقاقاتِ الدور الثابت بمقتضى التاريخ والمكان والمكانة.
أسخف ما يُقال هنا أنّ تل أبيب تُعاقب النظام في مصر لأنّه يرفض تهجير الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء، ومنها إلى بقيةِ المحافظات المصريّة، ذلك أنّ مطلب التهجير لم يعد مطروحًا على الطاولة أصلًا، فضلًا عن أنّ ثمّة تهجيراً صامتاً لطبقاتٍ بعينها من الفلسطينيين من غزّة إلى مصر وتركيا ودبي، قد تمّ بالفعل.
ما يُفهم بالبداهة أنّه لو كانت إسرائيل ضالعة في التآمر على مصر بهذا الشكل، فإنّ ردّ الفعل الطبيعي اتخاذ إجراءات لمواجهة "المؤامرة" تبدأ بمصارحة الشعب أولاً عن طريقِ مسؤولٍ يكلّم الناس، وتمرّ بسلسلةٍ طويلةٍ من الخطوات، أهمها وقف التعامل مع العدو في تجارةِ الغاز الطبيعي، بيعاً وشراءً، نهايةً بإجراءاتٍ دبلوماسية، مثل استدعاء السفير وتجميد العلاقات، وقبل ذلك وبعده، الخروج من حالةِ العجز المُهين أمام الهيمنة الإسرائيلية على معبر رفح، غير أنّ أيّاً من ذلك كلّه لم ولن يحدث، لسببٍ بسيطٍ للغاية، أنّ نظام 30 يونيو مدين بالكثير سياسياَ واقتصاديًا للكيان الصهيوني الذي كان أوّل من احتفل به ووفّر له الرعاية الكاملة لدى الإدارة الأميركية واعتبره ساسته وحاخاماته أنّه هديّة من الله لهم، لكي يخلصهم من إزعاجِ الإسلام السياسي.
عبارة "هدية الله" التي تُطلق على نظام 30 يونيو تتردّد بالطريقةِ ذاتها وللأسبابِ نفسها على ألسنةِ الصهاينة وألسنةِ الطبقة الناعمة التي تُحيط بهذا النظام في مصر منذ اليوم الأوّل له، ومضمونها أنّه خلّصهم من قوى الظلام، التي هي الإسلام السياسي، هكذا ينطقها الآن المطرب الشعبي عبد الباسط حمودة، والممثلة يسرا، وفرقة من الممثلين كأنّهم يعزفون نغمةً واحدة أرسلها مايسترو واحد، يرى في كلّ من يخرج عن هذا النصّ المقدّس"هدية الله" مجموعات من عديمي الوطنية.
هذه الوثنية السياسية تُستعمل الآن على نطاقٍ واسع للتغطيةِ على فضيحةِ الظلام في بلدٍ يمتلك كلّ المقوّمات اللازمة لإنتاجِ الطاقة الكهربائية، بل إنّ مسؤوليه كانوا يتيهون على الشعب غرورًا منذ سنوات بأنّ لديهم فائضًا للتصدير إلى العالم، فيصير العدو هنا هو معارضي "30 يونيو"، ذلك الصنم المقدّس، سواء المعارضون له بشكلٍ مبدئيّ منذ اليوم الأوّل، أو الذين اكتشفوا الخديعة بمرورِ السنوات وتجارب الألم والفقر والحرمان.
يبتزون الناس بأنّ الوطنية الحقيقية هي الدفاع عن الوطن (وهو النظام طبعاً) في هذه الظروف العصيبة، لكن مردود ذلك هو السخرية من صاحب الرسالة وحاملها، إذ تدرك غالبية الجماهير المخدوعة أنّ الوطنية لا تعني المعاناة والذل، وتحمّل الإهانة والظلم والحرمان من أبسط حقوق البشر، إذ يمكن أن تكون ميسور الحال أو فاحش الثراء ووطنيّاً في الوقت نفسه، كما أنّك وطني وتحبّ بلدك وتخلص له وأنت فقير كذلك، كما أنّ غضبك ضدّ الظلم المتسيّد في وطنك والحنق عليه، بل وسبّه بأبشع الألفاظ لا يسلبك وطنيتك أو ينتقص منها. فنجيب سرور، مثلاً، أكثر وطنية من جلاديه وظالميه وسارقي إنسانيته، والشاعر الذي سلخ بقصائده النارية الوطن الظالم أكثر حبًّا للوطن وإخلاصًا له وعرفانًا بفضله ومعرفةً بقيمته من صاحب السلطة الذي أمر بحبسه والتنكيل به، ومن السجان الذي انهال عليه بكلّ أدواتِ التعذيب، بحجّة الخوف على الوطن وحماية مقدراته.
الذين يعذّبون الناس بسياطِ الفقر والإهانة وانتهاك الآدمية وإسقاط الحقوق الأساسية هم الذين يكرهون الوطن حقًا، هم الذين تجرّدوا من الوطنية بمعناها السليم وصاروا أعداء له، وخصوصًا إذا كانوا متحالفين مع الأعداء الحقيقيين للوطن وناس الوطن.
الوطن لا يصح أن يكون هو الفشل والبلادة، مطلوب من الناس الدفاع عنهما وحمايتهما، بحجّة أنّ دون ذلك هو الفناء والعدم.
كفى تدليساً على الناس وإرهابًا لهم باسم هذا النوع الفاسد من الوطنية.