نهاية حقبة أم حقبة لا نهاية لها؟

08 مارس 2023
+ الخط -

بشّرتنا سفيرة أميركا في بغداد، ألينا رومانوفسكي، بأن بلادها تتطلّع إلى حقبةٍ جديدةٍ في العلاقة مع العراقيين لـ20 سنة مقبلة أخرى، وقد رأيناها تطوف على مسؤولي البلاد من رؤساء ووزراء ووكلاء ومستشارين تبلغهم البشرى، وتراقب أداءهم، ووصل عدد زياراتها في فترة قياسية إلى 44 زبارة، ثم غيّرت وجهتها نحو المحافظات، وبدأت بمحافظة الموصل، والحبل على الجرّار.

ولم ينافس رومانوفسكي في جولاتها تلك سوى صنوها سفير إيران، إيرج مسجدي، الذي لم يترك مسؤولا نافذا لم يزره، وبعضهم كان يستدعيه إلى مكتبه ليبلغه وصايا "الولي الفقيه"، وهذه الوصايا أوامر. ويُحسَب لحكومة بلاده أنها كانت السبّاقة في إعلان تبعية العراق لها، واعتبار بغداد إحدى عواصمها!

ولكي تكتمل "البشرى" بالأعوام العشرين المقبلة، حطّ في بغداد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، ليطمئن، على ما يبدو، على حركة الإصلاحات التي شرعت بها "حكومة الخدمة الوطنية"، وسنحت له الزيارة أن يلتقي زعيمين مليشياويين موضوعين على قائمة الإرهاب، وخاضعين لعقوبات أميركية، قيس الخزعلي (عصائب أهل الحق) وريّان الكلداني (حركة بابليون)، وظهر معهما في موقفٍ لا يُحسد عليه، إذ وقف الأول إلى يمينه، والثاني الى شماله، وقيل إنه وقع ضحية مقلب دبّره رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، الذي دعاهما إلى حفل تكريم غوتيريس، بهدف إسباغ نوع من "الاعتراف الدولي" بهما، وهذا ما لمح إليه الخزعلي نفسُه!

أثارت هذه التداعيات مشاعر اليأس لدى العراقيين الذين كانوا يمنّون نفوسَهم بأن سنواتهم العشرين المقبلة ستكون أفضل، وأنهم مقبلون على حقبةٍ جديدةٍ تنسيهم الأعوام العشرين السالفة التي نخرت في جسد البلاد جروحا لا قِبل لهم بمعالجتها، لكن الوقائع الأخيرة أكّدت لهم أن لا نهاية لتلك الحقبة في الأفق، كما لا بداية منظورة لمرحلة جديدة تؤسّس لما هو أفضل.

لا بداية منظورة لمرحلة جديدة تؤسّس لما هو أفضل في العراق

وهكذا ازداد شعور العراقيين بأنّهم سيظلون عالقين على درب معاناتهم فترة أطول، لافتقادهم القدرة على تغيير أنفسهم، ولضعف المعارضة الشعبية المنظّمة، وكلا الأمرين يؤدّيان الى متلازمة مَرضية غاية في السوء، تنعكس اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً على مجمل الوضع في البلاد.

صحيحٌ أنّ هناك ضرباً من الضجيج والصراخ العالي الذي تمتلئ به حسابات مواقع تواصل وصحف وفضائيات يعكس حالة رفض وتحدٍّ، لكنه، في النهاية، يصبّ في خيبة أمل كبيرة، وفي استسلامٍ مهينٍ أمام السلطة المهيمنة على القرار، والتي ألفت هذا الضجيج والصراخ وتآلفت معه، بل شاركت فيه حتى تمكّنت من أن تحتويه، وهذا ما اختبرناه في "انتفاضة تشرين" التي لم تتقدّم نحو تبنّي مشروع ثوري ناجز، إنما تحوّلت إلى حركة احتجاجات ذات أفق محدود، لا تتعدّى مطالباتٍ ثانويةً بالحصول على خدمات فئوية قاصرة، كتعديل قانون أو إطلاق حزمة تعيينات أو زيادة مرتبات المتقاعدين، وهذا ما جعل "النخبة" الحاكمة تتماهى مع ما تريده حركة الاحتجاجات، وتتكيّف مع الأزمة، لغاية استعادة قدرتها على الوثوب والتمركز من جديد، وهذا ما فتّق ذهنها عن فكرة "حكومة الخدمة الوطنية" التي كانت أولى خطواتها إسقاط مطلب القضاء على المليشيات وحصر السلاح بيد الدولة، وكذا التراجع عن مطلب "الانتخابات المبكّرة" التي دعا إليها من ظن أنها تمثل نوعاً من الحل.

يزيد في الطين بلّة أنّ أحزابنا "الثورية" التي سادت زمنا ما تزال تحمل عقلية الماضي، وتعاني من قصورٍ في رؤية ما يحيط بنا، وفي إيجاد المعالجات والحلول المطلوبة لمعاناتا اليومية، وأغلب القائمين عليها إما يعيشون في منافيهم، مضطرّين أو مختارين، وهم في الحالتين يعيدون، على نحوٍ أو آخر، ما يعانيه مواطنوهم في الداخل من مظالم، أو هم داخل الوطن لكنهم في غربة عن مشكلاته وهمومه، يغالبهم الحنين إلى سلطة سالفة أكل عليها الدهر.

هذا كله يعني أنّ السنوات العشرين الماضية المشحونة بالمرارات لم تترُك أثرا كافيا عندنا للدفع باتجاه التغيير. تحضُرنا هنا مقولة الفيلسوف الفرنسي، ألكسيس دي توكفيل، في أنّ الماضي عندما يكفّ عن أن يلقي ضوءاً على المستقبل، سوف يستكين المرء لحاله، ويبقى في الظلمة أبداً.

لا طريق أمامنا، إذاً، غير السعي من أجل أن تتجذّر عندنا حالة اليقين على أننا قادرون على التغيير، وعلى إيجاد طاقة جماعية لإعطاء معنىً يُشعر المواطن العادي أنّه معنيّ بالسعي من أجل التغيير، معنيّ بالمشاركة فيه، ومعنيّ بالدفاع عنه، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"