نكسة حزيران تتكرّر في القدس

10 يونيو 2024
+ الخط -

للمرّة الـ57 تحلّ ذكرى النكسة، التي شهدت احتلالَ باقي فلسطين ومناطق في سورية ومصر. ورغم أنّ مصر استردّت أراضيها، إلّا أنّنا لا نزال نشهد استمرار احتلال طويل للضفّة الغربية، بما فيها القدس ولقطاع غزّة ولهضبة الجولان السورية. ورغم استمرار الاستيطان في باقي مناطق الضفّة، ويشهد القطاع حرب إبادة غير مسبوقة، من الضروري أن يُشار إلى ما يحدث في القدس المُحتلّة من محاولات تهويد وأسرلة، بعد الضمّ غير الشرعي للقدس الشرقية، وتمرير القانون الإسرائيلي عَنْوَةً، وتطبيقه على سكّان المدينة.
لقد شهدت القدس تذبذباً في دورها خلال العقود الماضية، وكان منها سنوات بدت ذهبيةً بمنح المواطنين والمؤسّسات المقدسيّة حرّيةً نسبية في العمل الإعلامي والفنّي والثقافي، خصوصاً في السبعينيات والثمانينيات، ومنها سنوات الانتفاضة الأولى، إلّا أنّ تلك الفسحة من الحرّيات النسبية تلاشت بسرعة، خاصّة بعد توقيع مُذكّرة التفاهم الفلسطينية الإسرائيلية في واشنطن في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، وما تبعها من اتفاقياتٍ سمّيت اتفاقيات أوسلو، ثبّتت خروج القدس من العملية السياسية، وأصبحت غزّة ورام الله محورا النقاش والحوار والمرجعية، وتحوّل المقدسيون إلى أيتامٍ من دون أيّ حقوقٍ سياسية تُذكر. أمّا العقود الذهبية، في حرّية نسبية للإعلام والفنّ والثقافة، فتلاشت كما تتلاشى فقاعات الصابون. وقد ساهم، بصورة كبيرة، في هذا التراجع لمكانة المقدسيين ودورهم صعود الفاشية اليمنية في إسرائيل، وإعطائها الحرّية الكاملة لقمع أيّ شكل من العمل الوطني الفلسطيني المُستقلّ، ولم تبقَ سوى فزعات المقدسيين (والآن الحمساويين)، إضافة إلى العائلة الأردنية الهاشمية، في محاولة الدفاع عن المسجد الأقصى، والمُقدّسات الإسلامية والمسيحية، وبنتائج مُتفاوِتة.

ما يحدُث في القدس، وخصوصاً في البلدة القديمة، يعكس استمرار انهيار العمل الوطني الفلسطيني رغم بروزه في الأزمات على شكل فزعات

وما ساهم في تراجع دور المقدسيين هو غيابُ قيادات تُوحّد الشعب، وزيادةٌ في المرجعيات التي لا تعمل ما هو مطلوب، وتكتفي بتحصيل رواتبها الشهرية، وإصدار بيانات ركيكة في بعض المناسبات الوطنية. لقد شهدت القدس يوم ذكرى النكسة ما سمّي "مسيرة الأعلام الإسرائيلية"، هذه المسيرة العنيفة لطلاب المعاهد اليهودية المُتطرّفين دلّت على غياب موقف وطني مُوحّد يصدّ تلك المحاولات العنصرية من خلال مسيرة رَفَعَتْ شعارات استفزازية مثل "الموت للعرب"، وطالبت بحرق القرى العربية. قد تكون أكثر الصور أهمّية في فضح أهداف تلك المسيرة العنصرية تحوّل مصوّر صحافي إلى خبر حين حاول المُتطرّفون اليهود الاعتداء عليه؛ اعتدى هؤلاء المتطرّفون على الزميل سيف قواسمي، الذي كان هو نفسه يحاول أن يحمي الزميلة ديالا جويحان، كما تدخّل مراسل "هآرتس" نير حسون لحماية زميله المصوّر الفلسطيني، قبل أن تتدخّل الشرطة الإسرائيلية.
ما يحدُث في القدس، وخصوصاً في البلدة القديمة، يعكس استمرار انهيار العمل الوطني الفلسطيني رغم بروزه في الأزمات على شكل فزعات، كما حدث في موضوع الأبواب الحديدية، وفي اقتحام المسجد الأقصى في المناسبات الدينية، إلا أنّ هناك غياباً كاملاً لخطّة استراتيجية وطنية للدفاع عن القدس، وللعمل على تنمية إمكانيات الصمود. المقدسيون دافعوا ببسالة عن مدينتهم ومُقدّساتهم، ورفضوا باستمرار المشاركة في انتخابات بلدية القدس المُوحّدة حفاظاً على فكرة أنّ القدس عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة، إلا أنّ رئاسة الدولة الفلسطينية لم تقم بأيّ عمل فعّال لتبني ودعم وتوحيد الجهد المقدسي.

على المقدسيين، أولاً، توحيد جهودهم ووضع خطّة نضالية وطنية منطقية، وقابلة للتنفيذ

معروف أن الاحتلال يرفض أيَّ تدخّلٍ للقيادة في رام الله في أيّ عمل وطني في القدس، إلا أنّ تعدّد المرجعيات، وغياب خطّة وطنية شاملة لدعم صمود المقدسيين، تظهر جليةً في هذا التراجع الكبير الذي يتابعه كلّ مقدسي. فهذا التراجع يُهدّد بتدمير المشروع الوطني وبالتقاعس عن حماية المُقدّسات، التي نرى، يوميّاً، أنّ المُحتلّ والمُتطرّفين يعملون على توسيع استفزازاتهم في الأقصى، وفي حقّ رجال الدين المسيحيين، ويحاولون الاستيلاء على أراضي دير الأرمن، وغيرها من الأمور الخطيرة، التي رغم الردود الرسمية الشكلية عليها فإنّها لا تسمو إلى ما نحن بحاجة إليه. ولعلّ إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية، قبل أعوام عدّة، على خلفية عدم مشاركة المقدسيين (كانت سهلةً مشاركتهم من خلال التصويت الإلكتروني)، ساعد في استمرار عملية التشرذم وتعدّد المرجعيات، وغياب أيّ خطّة إصلاح وتطوير، وتنمية للقدس من كلّ النواحي؛ من سكن وتعليم، وصحّة، وسياحة، وغيرها.
ما يحدث في القدس ناقوس خطر يجب عدم تجاهله. وعلى المقدسيين، أولاً، توحيد جهودهم ووضع خطّة نضالية وطنية منطقية، وقابلة للتنفيذ، ثمّ التوجه بقوّة إلى القيادة الفلسطينية لضمان مشاركتها ودعمها ومباركتها والقيام بما هو مطلوب منها، أصلاً، في سبيل النضال الوطني، فهل من مجيب؟