نكتة الكهرباء وانتخابات لبنان
كثيراً ما يختلط الخيال بالواقع في لبنان. الانتخابات التشريعية على بعد نحو أسبوعين. حتى اللحظة، تتساوى احتمالات إجرائها في 15 مايو/ أيار المقبل مع عدمها. لا يمكن الحديث عن أي يقين في هذا البلد. لكن ذلك لم يمنع المرشّحين من السير في حملاتهم، وبشكل أدقّ نشر صورهم في الطرقات، وتوزيع الرشى على الناخبين، أكان على شاكلة نصف كرتونة بيض أم صندوق إعاشة أم زيارة لصالون تجميل، فأوان دفع المبالغ المالية لم يحن بعد. وباستثناء قلة منهم، لا يمكن الحديث عن برامج انتخابية واقعية لدى المرشّحين. مجرّد كليشيهات وعموميات وإغداق وعود تفصلها عن الواقع آلاف السنين الضوئية.
طوال الفترة الماضية، كان السؤال الأهم كيف ستتمكّن الحكومة اللبنانية من تأمين المتطلبات اللوجستية للانتخابات، من ميزانية، وحبر، وطباعة أوراق .. وكهرباء لمراكز الاقتراع وتأمين عمليات الفرز.
اختارت الحكومة أن تتعهد بجميع هذه المتطلبات، باستثناء الجزء الأهم، أي الكهرباء، فارتأت أن تتنصّل من مسؤوليتها في تأمينها حتى ليوم واحد، وبدأت البلديات تُصدر تعاميم تطلب فيها من أصحاب المولدات الذين يتحكّمون برقاب اللبنانيين، عبر ساعات التقنين والفواتير الجنونية تأمين الكهرباء لمراكز الاقتراع.
قال وزير الداخلية، بسام المولوي، لوكالة فرانس برس حرفياً مطلع شهر إبريل/ نيسان الحالي إن مؤسسة كهرباء لبنان أبلغته حاجتها لمبلغ قدره "16 مليونا و232 ألف دولار" لتأمين التيار الكهربائي ليوم الانتخابات، وهو مبلغ يفوق الاعتمادات المخصصة لإجراء الانتخابات برمتها، والمحدّد بـ 295 مليار ليرة، أي ما يعادل نحو 12 مليون دولار ونصف المليون، بحسب سعر الصرف في السوق السوداء.
يمكن للمخيّلة أن تذهب بعيداً في تصوّر ماذا سيحدث في يوم الاقتراع. وكيف ستنصاع قلة من أصحاب المولدات الذين يشكلون دولة خاصة بهم للتعاميم بسبب المصالح وحسابات الربح والخسارة. لكن يمكن تصوّر أيضاً كيف سيتجاهل كثر منهم طلب البلديات، وستكون مراكز عديدة بلا كهرباء وقت الفرز وكيف سيجرى على ضوء الشموع، إذا توفرت هي أيضاً. وكيف سيتيح هذا الأمر التلاعب بالنتائج في انتخاباتٍ يتقاتل أركان السلطة نفسها على المقاعد الـ128 في البرلمان الجديد الذي سيدخل التاريخ، نظراً لما ينتظره من مهمات، أهمها تشريع سرقة ما تبقى من ودائع اللبنانيين، وإقرار الاتفاقات المنتظرة مع صندوق النقد الدولي.
يعيد هذا الواقع المشكلة إلى جذورها الأساسية. أزمة مؤسّسة كهرباء لبنان أو مغارة علي بابا التي نُهب باسمها نحو 40 مليار دولار منذ انتهاء الحرب الأهلية قبل أكثر من ثلاثة عقود، من دون أن تتمكّن أي حكومة من وقف الهدر والفساد فيها، وتأمين محطّات تغذية توفر الكهرباء للبنانيين. في أحسن الأحوال، لا تتوفر كهرباء الدولة أكثر من ساعتين يومياً في لبنان، بعدما كان التقنين، في بيروت على سبيل المثال، لا يتجاوز ثلاث ساعات، ويرتفع تدريجياً بعيداً عن العاصمة. ولا يخلو شهر من إعلان المؤسسة عن توقف معامل إنتاج الكهرباء كلياً لعجزها عن توفير مادتي الفيول والمازوت.
والمفارقة أن هذه المؤسّسة التي دمّر انفجار مرفأ بيروت مقرّها الرئيسي، ويعمل موظفوها حالياً في طابق تحت الأرض من المبنى المدمّر، وتمتد إضراباتهم أسابيع طويلة تعيش زمن ما قبل الانهيار. فلا هي مهتمة بالماضي، أي جباية فواتيرها، والتأخر يمتد، في بعض الأحيان، إلى ثلاث سنوات إلى الوراء من دون أي مبالغة، ولا هي معنية بالحاضر أو المستقبل. تشكل فقط نموذجاً مؤلماً وشاهداً نموذجياً يُلخص طبيعة هذه الدولة وحالة الانهيار، والتي لن تغيرها انتخابات بكهرباء أو على ضوء الشموع.