نقد النخب السلمية في الثورة السورية
حذرت غالبية النخب السورية، في بدايات الثورة، من خطر الانزلاق إلى العنف والسلاح والعسكرة. وأسهب كثيرون في التحذير من الانجرار إلى العنف، على اعتبار أن العنف هو ملعب النظام ومجال تفوقه، ليس فقط لأن الطغمة الحاكمة تحتكر موارد الدولة، وتكرس أكثر من ثلاثة أرباع الموازنة للجيش والمخابرات وبقية أجهزة القوة المعنية بحفظ النظام، ما يجعله، بطبيعة الحال، أقوى من أي قوةٍ يمكن أن تنظم نفسها لمواجهته عسكرياً، بل أيضاً لأن من الصعب جداً ضبط العنف المضاد إذا انطلق، وبذلك فإنه سوف يجرّ أعداء النظام إلى ممارساتٍ إجرامية الطابع، سيما أن العفوية والارتجال يغلبان على الثورة عقب سنوات القمع الطويلة، الأمر الذي سوف يحرم الثورة من التفوّق المعنوي والأخلاقي الذي يشكل مركز ثقل الثورة. هذا فضلاً عن أن عنف الدولة مشروعٌ في الوعي العام، إذا ما قيس بعنف الخارجين عليها. وأضاف آخرون محاججاتٍ أخرى ضد الخيار العسكري، مثل أنّ العسكرة تقود إلى الأسلمة، لأن التنظيمات الإسلامية هي الأقدر على تلقف هذا الخيار، بحكم بنيتها التنظيمية ووعيها الإيديولوجي. وأن الأسلمة تفتح، بدورها، الباب واسعاً أمام التطييف والتطرّف والتدخل الخارجي والارتهان .. إلخ. وتوصل هؤلاء، بالتالي، إلى أن تبنّي العنف في الثورة هو من مصلحة النظام، وأن هذا الأخير هو من يعمل جاهداً، وبكل الوسائل، للدفع باتجاه عسكرة الثورة ثم أسلمتها، كي يعزلها ويبرّر قمعها أمام الداخل والخارج.
كان هذا المنطق يشكّل نقطة جامعة تقريباً للنخب السورية المنحازة للثورة. على هامش هذا المنطق، وعلى الضد منه، حاجج بعضهم في أن نظام الأسد لا يمكن أن يسقط سلمياً، وأن معركته مع الشعب السوري معركة حياة أو موت، وأنه مستعد للمضي في قتل المتظاهرين في الساحات والشوارع والسجون حتى آخر متظاهر، ومستعد أن يرتد بالعنف والقوة ضد أي إضرابٍ تجاري وأي عصيان، والنتيجة أن أي أملٍ بإسقاط النظام منوط بالخيار العسكري مهما كانت تبعاته.
هناك تصور يقول إن القوة فقط هي ما يمكن أن يفكّك نظاماً بهذا البنيان وهذا التاريخ
في الواقع، يمتلك كلا المنطقين السابقين ما يبرّره، ولا يمكن لأحدهما أن يدحض الآخر، سجالياً. يقوم التصور الأول على تثمين الجانب المعنوي والأخلاقي في الثورة، بوصفه مركز الثقل ونقطة الجذب التي يمكن أن تسقط النظام من خلال انكشاف وحشيته ولا أخلاقيته، على خلفيتها السلمية والأخلاقية. فيما يقوم التصور الآخر على جانب عملي، وعلى خبرة بالنظام تقول إن القوة فقط هي ما يمكن أن يفكّك نظاماً بهذا البنيان وهذا التاريخ.
تعايش هذان التصوّران في الثورة بعض الوقت مع غلبة كاسحة للتصوّر الأول في البداية. ولكن مع كل يوم من التظاهر والقمع الدموي، كان التصوّر الأول يخسر لصالح التصوّر العسكري. هكذا، وعلى معبر "الدفاع عن النفس" و"حماية المتظاهرين"، شهدت الساحة السورية ظاهرة تحول لافتة هي انتقال غالبية النخب "السلمية" إلى تبني التصور العسكري ودعمه وصولاً إلى مهاجمة والتشكيك في كل من بقي على قناعته السابقة بأن الخيار العسكري في الثورة يدمر الثورة ويخدم النظام.
اليوم إذا سألنا أحد أصحاب الرأي أو الفاعلين من دعاة السلمية في بداية الثورة، وممن اجتهدوا في التحذير من العسكرة وبيّنوا مخاطرها الكارثية، ثم تحولوا إلى متحمّسين للخيار العسكري، عن الآلية الذهنية التي حكمت تحوّله هذا، سيكون الجواب غالباً "إن النظام لم يترك أمامنا خياراً آخر، ألم تر كيف يطلق النار على المتظاهرين السلميين، هل يقف الناس بصدور عارية أمام بواريد النظام. ولولا حمل السلاح، لانتهت الثورة منذ الشهور الأولى". الحقيقة أن هذه إجابة منطقية ومقنعة، لكنها لا تغني عن سؤالٍ بديهي آخر: هل كان يعتقد أحد أن النظام سيتراجع أمام المتظاهرين المطالبين بإسقاطه؟ الجواب بـ"نعم" ينم عن جهل بطبيعة النظام، الأمر الذي لا يعترف به أحد من هؤلاء. والجواب بـ"لا" يعيد طرح السؤال: إذن، لماذا كان التشديد على السلمية والتحذير من الخيار العسكري؟
أصبح الدفاع عن العسكرة يعادل الدفاع عن الثورة، ما جعل غالبية النخب التي كانت سلمية تتحوّل إلى العكس
يمكن تلمّس تفسير لهذه الظاهرة في أن التطور العسكري للثورة جرى بعيداً عن إرادة النخب السلمية، أقصى ما يمكن أن تكون هذه النخب قد شاركت فيه هو التساهل مع بعض السلاح لحماية المتظاهرين، والدفاع عن النفس في وجه الشبيحة وأجهزة القمع، لكنها لم تشارك في تقرير المسار العسكري الفعلي، بوصفه طريقاً إلى إسقاط النظام. وعلى هذا، وجدت النخب السلمية نفسها أمام خيارين: أن تقبل هذا الخيار الذي أصبح واقعاً مفروضاً، وتدافع عنه وتمشي فيه إلى النهاية، أو أن تعترض عليه وتتحوّل، بالتالي، إما إلى معالجة نتائجه من خلال أعمال الإغاثة (نسبة كبيرة من سلميي الثورة تحولوا إلى العمل الإغاثي)، أو تخرج من دائرة الفعل المباشر، كما كان حال كثيرين، ومن بينهم نجمة المرحلة السلمية في الثورة، فدوى سليمان.
على هذا، أصبح الدفاع عن العسكرة يعادل الدفاع عن الثورة، ما جعل غالبية النخب التي كانت سلمية تتحوّل، في خطابها ومحاججاتها، إلى عكس ما كانت عليه في الشهور الأولى للثورة. ليس من الصعب فهم حراجة موقف النخب السلمية المعارضة للنظام أمام هذا الواقع، إذ لا يمكن لها أن ترفض الخيار العسكري الذي راح يتوضع على الأرض، ويحقق مكاسب ملموسة. وتبدو، بالتالي، كما لو أنها تقبل بالنظام. يمكن، إذن، فهم دوافع التحول، ولكنه مع ذلك يقول إن النخب السلمية لم تكن مبدئيةً في موقفها من سلمية الثورة، معاداة النظام تفوقت لديها على المبدأ، مشاعر الرفض تغلبت على الفهم والتحليل. والطريف أن سلميين كثيرين تحولوا، في الطور العسكري، إلى دعاةٍ شديدي الحماس إلى السلاح.
الأكثر طرافة، أو غرابة، أنه حين فشل الخيار العسكري في إسقاط النظام، وقاد إلى كوارث كبرى على سورية والسوريين، راحت هذه النخب نفسها تبحث في أسباب فشل الخيار العسكري الذي كانت تقول عنه، في البداية، إنه خيار كارثي.