نظام لبنان بلا شرعية داخلية ودولية
لا يستقيم نظام سياسي، في أي دولة، إلا إذا التزم الحكم الشرعيتين الدستورية الداخلية والدولية الناظمة. يحدّد الدستور التزام الأولى، وهو الذي يشكل العقد الاجتماعي (جان جاك روسو) الذي ارتضاه الشعب طوعا بكل ما ورد فيه من مبادئ وقواعد وآليات عمل سياسية. أما الشرعية الدولية فتعني أن ميثاق الأمم المتحدة ينبذ الدولة الفاشلة، وأي سلوكٍ تتصرّف فيه الدولة بحقوق المواطنين المدنية والسياسية، وبإرادة الشعب في السيادة والاستقرار، فلا تتدخّل هذه الدولة في شؤونه وشؤون الدول الأخرى أو العكس، فالسلطة في أي بلد هي التي تشكّل النظام الأساسي لضبط علاقات الدولة مع الخارج، والتزام المعاهدات الدولية، في ظل غياب أي تنظيم في القانون الدولي لمسألة الفراغ، الذي حوّل لبنان مجتمعا مغلقا، وعلى أهبة المجهول. وبالتالي، لا شيء يرعى مسار مجتمع لبناني ديمقراطي معطّل، ما عاد يهتم العالم باحتضانه، وهو بعيد عن الشرعية القانونية المتعارف عليها دوليا.
يعاني لبنان من شلل سياسي مروّع، يدخل بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون الفاشلة والضعيفة، مرحلة من عدم اليقين بالكيان والجمهورية. ليست المرّة الأولى التي يواجه فيها لبنان فراغا رئاسيا، أو حكوميا، على غرار ما سبق الرئيس السابق ميشال سليمان في عام 2016. وللمرة الثالثة بعد العام 2005، يجد لبنان نفسه في مواجهةٍ مع القانون الدولي، والتعرّض لتدخل الجميع في خصوصياته، وهو يفتقد، في تكرارات الفراغ البيروقراطية، كل القواعد الناظمة لوجوده دولة مستقلة، في أوضاع مزرية تحتاج سلطة ومساعدة المجتمعيْن، الدولي والعربي، من أجل حماية السلم الداخلي المهدّد باللاستقرار، وإيجاد سبل وطرائق لحياةٍ، مزدهرة كما حياة الشعوب الأخرى.
جمهورية الفراغ بلا الشرعية التي تسيّر عمل المؤسّسات، ولو كانت شكلية، ولبنان على طريق فقدانها، فرئيس الجمهورية، وهو "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن"، حسب الدستور، يوقع على مرسوم استقالة حكومة تصريف أعمال، وبالحد الأدنى، ويمتنع عن القيام بواحدٍ من أهم واجباته ومهامه الدستورية! لا أحد يعرف إذا كانت القوى العربية والدولية التي تكرّر دعواتها إلى انتخاب رئيس للجمهورية، بإمكانها الانتقال إلى فرض عقوبات على القيادات السياسية المعرقلة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، كما الإصلاحان السياسي والمالي. لم تعد التركيبة الحاكمة والمتحكّمة في لبنان تتمتّع بالصدقية، وهي عمليا مافيات سياسية، تلعب بمصير الناس، وتتلاعب بالشرعية، ولا تتألم على ضياع ماضي لبنان وحاضره ومستقبله. ينتظر اللبنانيين شقاءٌ كثير، ودخل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي واتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وحل مشكلة اللاجئين السوريين في علم المعلقات والوداعات، ومن دون استثمارات أجنبية، في ظل متغيرات إقليمية ودولية، وأوضاع تفاقم من تدهور يوميات الجحيم اللبناني.
فقدان آليات المحاسبة وشهوة السلطة، أفقدت لبنان رصيديه المادي والمعنوي
سيؤدّي الشغور الرئاسي إلى ارتطامات كبيرة، وإعادة خلط الأوراق الإقليمية بين السعودية وإيران، وصولا إلى تبدل أوضاع المنطقة، ما سينعكس خلافاتٍ عميقة على اسم الرئيس المرشّح، وحرق أوراق سياسية كثيرة، والتعثر في ما خصّ إعادة انتظام عمل المؤسّسات الدستورية. قد يمتد الشغور أسابيع وشهورا وسنينَ، واستباقا لنهاية مفاوضات النووي الإيراني المجمدة وانعكاساتها، ما يترك البلد متروكا لنفوذ حزب الله ولقراره، أياً كان هذا القرار (إلا إذا أخلى الساحة لمرشّحه سليمان فرنجية)، أو استمرار الانهيارات العميقة وإلى خواتيمها. النتيجة أن النظام اللبناني يفقد مكانته، وظيفته، مهمته، ذات الصلة بالمجتمع الدولي، والمجتمع المدني الذي يهتم أكثر بشؤونه الحياتية أكثر من اسم الرئيس المقبل، ويسأل عن أداء المؤسّسات، ومدى اهتمام أصحابها بإيجاد حلول للأزمات المتفاقمة، وعن دور الأحزاب السياسية الذي يجب أن يتعزّز في تحصين الديمقراطية، وفي الإنماء المتوازن والمساواة والشمولية.
اللبنانيون يجوعون، ويئنون بصمت. اضطروا إلى تخفيض كمية المواد الغذائية الأساسية بنسبة 90%، واضطر 43% منهم إلى بيع أصول ليتأقلموا مع الأوضاع البائسة. لا يستطيع 33% من السكان تحمّل كلفة وجبة مع اللحم والدجاج، و64% أجلوا وتخلوا عن زيارة الطبيب بعد إصاباتهم بالمرض (دراسة استطلاعية للباحثة ليلى داغر). بنوك خارج الخدمة (59 مصرفا متعثرا ماليا أغلقت أبوابها بوجه المودعين)، مع اختراقات للنظام المصرفي، تضخّم بنسبة 288%. تحوّل اللبنانيون إلى نظام تحويل بديل من الخارج 6.61 مليارات دولار مقارنة مع 7.41 مليارات دولار عام 2019. صنّف لبنان في المرتبة 187 بين 209 دول في خانة فعالية الحكومة والحوكمة، والمرتبة 170 عالميا، و13 عربيا، من حيث نوعية الأنظمة والقوانين، والمركز 144 عالميا والثالث إقليميا في النقد والمساءلة، والمرتبة 193 عالميا، و14 عربيا من حيث الاستقرار السياسي، المرتبة 130 عالميا بين 180 دولة في انتهاك الحريات الإعلامية والثقافية (800 انتهاك من اعتقالات واغتيالات واستدعاءات في ست سنوات).
يعاني لبنان من شلل سياسي مروّع، يدخل بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون الفاشلة والضعيفة، مرحلة من عدم اليقين بالكيان والجمهورية
تعكس الأرقام بشكل واضح سوء استخدام السلطة السياسية وعدم احترام المهل الدستورية، وتعكس فقدان آليات المحاسبة وشهوة السلطة التي أفقدت لبنان رصيديه المادي والمعنوي. تبقى السلطة التشريعية المرجعية الوحيدة، القائمة والفاعلة، لكنها أمام تحدّيات. هذه السلطة معطلة إزاء مشاريع لن تعرض عليها في ظل حكومة مستقيلة، ولا تستطيع القيام بدور السلطة الإجرائية. لا يمتثل البرلمان إلى القواعد الناظمة/ الشارعة، ويلجأ إلى تفسير النصوص الدستورية، ما يزيد الأمور تعقيدا. ما عاد يتمتع، في العقود الأخيرة، بصدقية ديمقراطية حصينة. وتواجه مسألة تمثيله تحدّيات واقعية، تفرض منطقها في لبنان، على صدقية التمثيل الشعبي المباشر، واستجابته لقضايا تخدم الكتل الضاغطة، وتخرق المبادئ المطلوبة.
تضمن السلطة التشريعية، كما يجب أن يلحظ الدستور، استقلال القضاء، وشرعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأداء السلطة الإجرائية، وضبط علاقات الدولة مع الخارج والتزام المعاهدات الدولية. حتى الأعراف المستقرّة (قبل مؤتمر الطائف)، مثل الحفاظ على الميثاق الوطني، ستواجه تحدّيات، والحوارات الوطنية المطلوبة في مجال محدود لتحقيق أهداف تعزّز التفاهم ضمن دوائر ضرورية لانتخاب الرئيس، ولحماية السلم الأهلي، والتضييق على دعوات إلى الكراهية والتمييز الطائفي والعنف الفئوي، "حين تكون لديك مشكلات مالية يزداد الاستقطاب، وكذلك الشعبوية السلبية من اليسار واليمين، ويمكن أن تنتج عنها فوضى، ويمكن أن تؤدّي، في النهاية، إلى حرب أهلية". (راي داليو، مدير صندوق مالي دولي). .. دخل لبنان في نفق أزمة نظام مستعصية.