خيبة تونس قيس سعيّد
استذكرت، وأنا أتابع الأخبار عن الانتخابات التي أجريت أخيراً في تونس، أوراقاً قليلةً كنّا نعمل عليها في البحث الأكاديمي عن النموذج الأول ديمقراطياً في مفتتح الثورات العربية العام 2011، مصحوباً بهامش كبير من التفاؤل في علوم السياسة الحديثة، حين تخرُج من المجموعات التسلطية إلى الشارع المديني. طرحت الانتفاضة التونسية أسئلةً وأبحاثاً جديدةً، وأملت التوصل إلى استنتاجاتٍ من خلال دراستها بشأن الانتفاضات العربية وتركيبتها وأهدافها وأساليب عملها، في مصر وسورية وليبيا، وتماهيها مع قواعد اجتماعية عريضة وتدرّج مواجهاتها والارتفاع بمطالبها. لم يقتصر التماثل على الشعارات المدنية والسلمية والحضارية التي رفعتها الحشود الغاضبة في تونس، وبعدها في ميادين أخرى، فضلاً عن المطالبة بمكافحة الفساد والحقّ في المشاركة والحرّيات العامّة واحترام حقوق الإنسان. هذه المطالب التي كانت أوّليةً، وتُقمع حالياً بطريقة متفاقمة من الرئيس قيس سعيّد الذي جاء على أنقاض ما آلت إليه الدعوة إلى إطاحة الأنظمة الاستبدادية، "والشعب يريد إسقاط النظام". شعور بالخيبة العميقة من تلك الشعارات التي بدأتها تلك الحركات الشعبية، وما إذا كانت براغماتيةً في الغالب، وهو ما يتبيَّن في أكثر من حالة وثّقتها تونس ما بعد الثورة في مجتمعٍ من المفترض أن يكون حليفاً وطنياً وعربياً متجانساً وعفوياً.
كانت الانتفاضة التونسية واعدةً، تعدّدية بقبولها التنوّع والاختلاف. وفيها الديني والعلماني، اليساري واليميني، الإسلامي والمسيحي، الرجل والمرأة، ثقافة الطبقة الوسطى، إيلاء شأن الكرامة الإنسانية (محمد البوعزيزي)، قيم حرّية كونية تُمثّل المشترك الإنساني. وكان الشباب فيها السلاح الفعّال والناقد في شبكات الإنترنت ومواقع التواصل وعبر الهاتف النقّال، الأمر الذي ساعدهم في التواصل والتنسيق والتنظيم. لقد انطلق الجيل الثوري الجديد في فضاء مجتمعي بشكل مختلف جدّاً عمّا يريده قيس سعيّد، وجيل الحكام التقليديين في السلطة، الذين يحاولون توصيف الاحتجاجات والمعارضات أنّها "صناعة خارجية". في حين أنّ الجيل الجديد كان يربط الوطنية بالحقوق التي يحاضر بشأنها أستاذ القانون وباللغة الفصحى، باعتبارها الكلام، الذي لا انفصام فيه بين السياسة والمساءلة، السياسة في خدمة الشعب وليس العكس. لقد تبنّى سعيّد النقيض تماماً باختيار العوامل الحاكمة في السياسة والإدارة والقضاء والاقتصاد. لذلك وجد نفسه في القيم المغايرة التي يقوم عليها المجتمع التونسي في حقّ المساءلة والمشاركة السياسية والعدل. لم يفِ بوعوده التي أطلقها قبل خمس سنوات. ترشّح للرئاسة باعتباره سيصلح السياسة التونسية. فعل ذلك، فمنح نفسه صلاحياتٍ وصفها كثيرون بـ"انقلاب" داخلي على الديمقراطية الضعيفة.
يقول تونسيون قليلون إنّهم أفضل حالاً. ومع ذلك، ترشّح سعيّد وأعيد انتخابه، وفق تصويت متدنٍّ، كان سيفوز به بالتأكيد. كان عشرات يأملون في تحدّيه، لكن طموحاتهم أُحبِطت، وسجن مرشّحون محتملون بتهم ملفّقة، واستُبعِد آخرون بعد اتهامات وشبهات مشكوك فيها، فقيس سعيّد ماهر في استخدام اجتهادات دستورية خاصّة لسحق التحدّيات التي تواجه حكمه.
ما عاد الشعب التونسي قادراً على تحمّل الأفكار والمعارضات والممارسات السياسية في تكتيكاتها التي تمثّل عدواناً على الديمقراطية
تميّزت انتخابات عام 2019 بالإيجابية. كان التونسيون متفائلين، فصلوا بين الدين والدولة، وسبق أن أطاحوا زين العابدين بن علي، ديكتاتورهم فترة طويلة، عام 2011. لكنهم لسنوات فقدوا الأمل في السياسيين الفاسدين الذين فشلوا في إحياء الاقتصاد الراكد. حصل سعيّد في الدورة الماضية على 73% من الأصوات. وعد بدستور جديد، وأيّ دستور! في عام 2021 علّق جزءاً منه، وأرسل دباباته لإغلاق أبواب البرلمان، وفي العام الثالث دفع بإصدار دستور جديد يُجرِّد السلطة التشريعية من صلاحياتها ويُعزّز الرئاسة. منذ توليه منصبه، تراجعت تونس من المركز 53 إلى المركز 82 في مؤشّر الديمقراطية، ويظلّ الاقتصاد مهملاً والنمو منخفضاً، وأصبح الناتج الداخلي أصغر ممّا كان عليه قبل الانهيار الناجم عن كوفيد – 19، ومما كان عليه قبل الثورة، وبلغ معدَّل البطالة 76%. النقطة المضيئة الوحيدة صناعة زيت الزيتون التي ازدهرت بسبب الجفاف في إسبانيا. كلّ شيء آخر يتراجع، السياحة والتجارة، والرفاهية، والتعليم. ويقدّر الدين العام بحوالي 80% من الناتج المحلّي الإجمالي. وفي عام 2022 تفاوض مع صندوق النقد الدولي على خطّة إنقاذ بقيمة 1.9 مليار دولار تراجع عنها. مع ذلك، تمكَّنت الحكومة من تجنّب التخلّف عن السداد. لكنّها تحتاج إلى اقتراض نحو 14% من قيمة الناتج المحلّي، وصُنِّفت سنداتها على أساس على أنّها غير مرغوب فيها. لم يُظهر سوى القليل من الاهتمام بالإصلاحات، وذهب أكثر إلى الصراخ في مسألة مكافحة الفساد وتعثّر الاقتصاد والديمقراطية.
قيس سعيّد، مثلما رأيناه يضرب شيئاً أساسياً للعقلانية، شخصية نرجسية لا تسمح بمناقشتها، أفكاره باردة من دون انفعالات بوصفها قوة سالبة. يهتم بنفسه ولا يرى أحداً يقف أمامه، ممّا يرفع مستوى القلق في فهم طبيعة التهديد الذي يواجه تونس. واضحٌ أنّ الناخبين التونسيين قيّموا الانتخابات الأخيرة سالباً، لم يكونوا مرتاحين لترشّحه مُجدَّداً، اقتباس المرشّح الأول غير المفضل، وفي منطقة شعور بالتأفف من مآلات الأوضاع السلبية، وفي حالة من الضيق النفسي والتنافر السياسي مع تحوّلاته نحو النزعوية والتماهي مع الذات، والنقد بطريقة "نحن وهم" في مجتمع كامل من القوى السياسية الحديثة والمرتبطة أساساً بالشكل الحديث للدولة.
ما عادت مفاهيمه القانونية تتحدّد بالدفع الاجتماعي والاقتصادي، أو نتاج لتفاعل عوامل داخلية وبعض العوامل الخارجية. فاتخذ التونسيون الطريق المختصرة، موقفاً محافظاً في آخر انتخابات. لم تكن تلك الرومانسية القديمة كافيةً لإيصال حماسة المقترعين ناحية الوعود والآمال الكبيرة والشعارات البرّاقة البعيدة المنال والتزويقية، التي حلّت في محلّ الواقعية السياسية في وعود أقرب إلى السراب.
ما عاد قيس سعيّد مفاجأةً، صار مرحلةً طويلةً من اليأس عند التونسيين وعند الباحثين في شؤون المنطق
انقضت نظرية الشخصية التسلطية القديمة في الستينيّات وسقطت، وهو يحتفظ بها بسماتها المعروفة لناحية التمسّك بالسلطة وعدم الاستعداد للتصدّي للواقع القائم، والتمركز حول الذات. وهو لا يرغب في اكتشاف ذلك، غير مستعدّ لمحاباة أحد في نظرية "التنميط" بالفطرة. كأنّه حالة ثورية حدثت فعلاً، والملهم المخلّص (الحبيب بورقيبة). ليس الأمر صحيحاً، وهو يحاول أن يحتوي المجتمع بعوامل الخبز والخوف والقهر على حساب الوجود والكرامة.
تعيش تونس أوضاعاً متقلّبةً في غموض وتشويش في الرئاسة والأحزاب والجماعات المدنية والعمّالية، ودور المثقّفين في مواقفهم المتفرّقة والمتباينة ممّا يحصل. قام الشعب بما لا يستطيع أحد القيام به، وهو الذي يضمن نجاح أيّ ثورة، وما عاد قادراً على تحمّل الأفكار والمعارضات والممارسات السياسية في تكتيكاتها المخالفة للمعايير الحداثية، التي تمثّل العدوان على العملية السياسية الديمقراطية، وعلى ما يعزّز الترابط المجتمعي والامتثال للدستور والحرّيات المدنية، وهي العوامل المولّدة للعنف في مجتمعاتنا العربية.
ما عاد قيس سعيّد مفاجأةً، صار مرحلةً طويلةً من اليأس عند التونسيين وعند الباحثين في شؤون المنطقة. كأنّ الثورة انتهت، تلك المفاجأة التي شكَّلت تجربةً ملهمةً، وكان التونسييون شديدي التواضع في الحديث عنها، لأنّهم غير معتادين على تصدير الأيديولوجيا أو الثورة.