نظام عاجز في دمشق
ضمن وضع اقتصادي مضطرب، يواجه النظام في سورية تحرّكا جديدا في الشوارع، يبدو أنه يتوسّع ويتفاقم يوما بعد يوم. تكبر دائرة الاحتجاج، ويرتفع سقف المطالبات، كاسرة مزيدا من الحواجز والحدود، وقد اتّخذت شكلا مختلفا بتكثيف الظهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عدَّد فيه المحتجون الصعوبات التي يلاقيها المواطن العادي ومسؤولية بشّار الأسد الشخصية عن هذه المعاناة، حيث ذكرته بالاسم والصفة. أتى الاحتجاج في العاصمة الجنوبية، السويداء، جماعيا. ورغم أنه اتخذ شكلا محلّيا، أظهر المحتجون مطالبات تهم عموم السوريين، وبجرأة وصلابة عبروا عن رفضهم وجود بشّار الأسد على كرسيّ الرئاسة، وكان الاحتجاج قد بدأ بعد أن أعلنت الحكومة عن زيادة في الرواتب، وهي حيلةٌ يريد النظام منها أن يغطّي على فشله الذريع في التغلب على مصاعبه الاقتصادية، فرفع دعم الحكومة عن بعض الاحتياجات الأساسية التي بات يعجز عن تأمينها كليا، أو عن تأمين القدر الكافي منها. وفي الواقع، لم تعد تنطلي قراراتٌ كهذه على الشرائح المجتمعية المستهدفة، والتي كانت هي بالذات من بدأت الاحتجاج.
أهمية هذه الجولة الجديدة من الاحتجاج أولا في تعزيز موقع محافظة السويداء في الجانب الرافض للنظام، وقد عبّرت عن ذلك بوضوح وقوة عبر حشودها اليومية في ساحات المدينة الرئيسية، وعبر قادتها الاجتماعيين والروحيين. وفشل النظام على ما يبدو خلال الاثني عشر عاما الماضية في فرض مناخ موالٍ له هناك، رغم أنه مارس ضغوطا مختلفة لتبقى هذه المدينة إلى جانبه، فلم يُخفِ لعبه بأوراق طائفية ومحاولة الإيقاع بين أبنائها وجيرانهم في درعا، ودسّ رجال عصاباته ومليشياته المختلفة، ليمارسوا الخطف والابتزاز لتشويه الوضع الأمني الذي تعيشه، ولكن معظم سكّان المدينة تضرّروا من الحالة القائمة بين النظام وبينهم، وكانت الفرصة سانحة في قراراته الاقتصادية المعلنة أخيرا، والتي سبّبت إخراجه بشكل نهائي من المحافظة، بعد أن كان وجوده فيها شبه رمزي ومؤسّساته شكلية، فيما يمارس أبناؤها نوعا من التسيير الذاتي لشؤونهم اليومية مع الحفاظ على أقلّ الوشائج الرابطة مع النظام، لكن واقع المحافظة بائس، وقد نالت نصيبها من الحرمان، وطبِّق عليها ما طبق على بقية أنحاء القُطر من التقتير في الوقود والكهرباء والمواد الغذائية الأساسية.
الأهمية الثانية في الاحتجاجات أنها كشفت عن بؤر معارضة واسعة في المناطق الساحلية التي يعتقد النظام أنها موالية له بشكل كامل، ولكن كثافة المعارضين كانت كافيةً ليظهر ممثلون عنهم وبمنتهى الجرأة، ليعبروا من خلال شاشات هواتفهم عن موقف أبناء المنطقة الحقيقي وهذه المناطق، وإن لم تعلن نفسها بشكل جماعي، إلا أن ظهور من يتحدّث باسمها من دون أقنعة وبطريقة مباشرة وتواصيف واقعية يجعلها مرئية، ويمكن تحديدها وعمق رغبتها الحقيقية في تغيير النظام. ولن يفيد السلطة القبض على بعض من ظهر معترضا، فالتيار المستاء كبير وحقيقي، ويستعصي على السجون التي يمتلكها النظام.
لا تنخفض قيمة هذا التحرّك لكونه بدا انفعاليا وأعقب تردّيا جديدا في الحالة الاقتصادية، فلم يكن الشعور المعارض الذي جرى التعبير عنه وليد اللحظة، ولن يتبخّر في اللحظة التالية، لكنه شعور تراكمي يزداد مع الزمن، ومع إدراك المواطن حقيقة التعايش مع هذا النظام. التحرّك أخيرا مسمار آخر في نعش النظام الذي لم ينفعه التقارب العربي والوعود التي تلته، فبقي عاجزا أمام أزمته التي أوجدها لنفسه، والتي تُراكم كل يوم تياراتٍ معارضة جديدة، حتى وصلت إلى قلوب من يعتقد أنهم مساندوه. ولا يفيد النظام المزيد من الدعم السياسي الذي يبدو أنه جاء بوصول وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق، فهذه زيارته السابعة منذ تعيينه في منصبه. وكان رئيس إيران إبراهيم رئيسي قد زار دمشق قبله، ولكن حالة النظام الاقتصادية لم تتغيّر، ويبدو أنها ستكون سببا في زواله النهائي.