نشر خوذ زرقاء في غزّة ليس حلّاً
يتجدّد بين الفينة والأخرى مطلب نشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتّحدة في فلسطين المُحتلّة، خاصّة في ضوء تصعيد إسرائيل حملة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، وسيناريوهات اليوم التالي، فقد أعلن الرئيس الإندونيسي، برابوو سوبيانتو، أخيراً، استعداد بلاده إرسال قوات حفظ سلام لتنفيذ وقف إطلاق النار في غزّة، وقال وزير الدفاع المالیزي إسماعیل صبري، إنّ بلاده مُستعدّة لإرسال قواتها في مُهمّة حفظ سلام في فلسطين إن طلبت الأمم المتّحدة. وجاءت هذه الالتزامات استجابة لطلب تقدّمت به جامعة الدول العربية في ختام القمّة العربية الـ 33 في المنامة في 16 الشهر الماضي (مايو/ أيّار)، داعيةً إلى نشر قوّات حماية وحفظ سلام دولية تابعة للأمم المتّحدة في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة إلى حين تنفيذ حلّ الدولتين.
يحظى هذا المطلب بدعم فلسطيني منذ عقود، ويصطدم برفض إسرائيل وحلفائها، ففي سياق الانتفاضة الثانية، طالبت فلسطين، عبر المراقب الدائم عن فلسطين في الأمم المتّحدة، ناصر القدوة، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2000، بتشكيل قوّة مراقبين خاضعة لقيادة الأمم المتّحدة، ثم زار الرئيس الراحل ياسر عرفات مقرّ المُنظّمة في نيويورك، وطالب بقوّة قوامها ألفا مراقب عسكري لتوفير الأمن للمدنيين الفلسطينيين. اعترضت إسرائيل على الطلب، بدعوى أنّه سيعيق مفاوضات السلام بين الطرفَين، وعارضه الرئيس الأميركي بيل كلينتون آنذاك، متحجّجاً برفض إسرائيل تشكيل قوّة حماية. وأضافت كلّ من بريطانيا وفرنسا أنّه من دون موافقة إسرائيل وتعاونها لا يمكن لهذه القوّة أن تُحدِث فرقاً، فيما قال الجانب الفلسطيني إنّ موافقة إسرائيل ليست شرطاً مسبقاً لأنها دولة احتلال.
وفي 26 مارس/ آذار 2001، صوّت مجلس الأمن على مشروع قرار تقدّمت به ستّ دول (تونس، وبنغلاديش، وجامايكا، ومالي، وماليزيا وناميبيا) يطلـب "إقامة آليـة ملائمـة لحمايـة المدنيين الفلسطينيين بوسائل منها إنشاء قوّة مراقبة تابعة للأمم المتحدة" (S/2001/270). حظي المشروع بتأييد الدول الستّ بالإضافة إلى الصين وأوكرانيا، وامتنع عن التصويت الأعضاء الآخرون، بمن فيهم الخمسة دائمو العضوية. لم تضطر واشنطن إلى اللجوء إلى حقّ النقض (فيتو) نظراً إلى فشل مشروع القرار في الحصول على تسعة أصوات مُؤيّدة، وهو الحدّ الأدنى لاعتماده. طوي ملفّ هذا المطلب منذ ذلك الحين في مجلس الأمن من دون أن يتوقّف الجانب الفلسطيني عن الدعوة إلى نشر قوّة حماية استناداً إلى مبدأ "مسؤولية الحماية" المشار إليه اختصاراً بـ"RtoP"، الذي اعتمده مُؤتمر القمّة العالمي لعام 2005، حين أقرّ رؤساء الدول والحكومات بمسؤولية حماية السكّان من الإبادة الجماعية، وغيرها من الجرائم الدولية. لكنّ مبادئ المجتمع الدولي والقانون الدولي وأعرافه تتوقّف عند عتبة إسرائيل التي تدوسها من دون عقاب.
ولكن المشكلة ليست في رفض إسرائيل فقط، وإنّما، أيضاً، في فرضية أنّ حَفَظَة السلام قادرون على حماية المدنيين، وهذا ما نفته حصيلة عمليات حفظ السلام الأممية في المناطق التي لم يتوصّل أطراف النزاع فيها إلى سلام. بناءً على طلبٍ تقدّمت به كاتبة المقال إلى مكتب خدمات الرقابة الداخلية التابع للأمم المتحدة في عام 2013، بغرض التحقيق في تستّر قادة بعثة الأمم المتّحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور (يوناميد) عن جرائم الجيش السوداني ومليشياته في دارفور ضدّ المدنيين، وعن فشل قوّات البعثة في حمايتهم، قام هذا المكتب بتحقيق موسّع نشر تقريره يوم 7 مارس/ آذار 2014 بعنوان: "تقييم تنفيذ ولايات حماية المدنيين في عمليات الأمم المتّحدة لحفظ السلام ونتائجها" (A/68/787). شمل تسع بعثات حفظ سلام، بما فيها "يوناميد"، وخلص إلى وجود "نمط ثابت لامتناع عمليات حفظ السلام عن التدخّل بالقوّة عندما يتعرّض المدنيون لاعتداءات"، وأكّد أنّه في 80% من الحالات التي يتعرّض فيها المدنيون لاعتداءات مُسلّحة، لم يوفّر لهم حفظة السلام أيّ نوع من الحماية، سواء وجدوا في موقع الهجوم أو لم يكونوا موجودين فيه.
وجود قوّة حفظ سلام أممية في غزّة لن يكون مرادفاً لحماية المدنيين بقدر ما قد يحمل تعقيدات سياسية إضافية
لم يترك التحقيق مجالاً للشكّ في أنّه، سواء تعلّق الأمر بدارفور أو لبنان أو هايتي، فإنّ حفظة السلام غير قادرين على توفير الحماية لجميع المدنيين، في كلّ مكان وفي كلّ وقت، حتّى في الحالات التي يُنشرون فيها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يسمح باللجوء إلى القوّة. وأكّد التحقيق أنّ مُهمّة الحماية تؤول إلى الدول وليس إلى بضعة آلاف من الخوذ الزرقاء الخاضعة لحماية الدول المُضيفة لها، والتي تُشنّ عليهم، أحياناً، هجمات مُميتة، كما حدث في السودان. لقد شكّل هذا التحقيق بداية نهاية عقيدة حفظ السلام القوي "Robust peacekeeping" التي اعتمدتها إدارة حفظ السلام منذ احتكرت إدارتها فرنسا في 1995، واستغلّتها لخدمة تدخّلاتها النيوكولونيالية في أفريقيا خاصّة، بعيداً عن مبادئ حفظ السلام التقليدي، الذي يشترط وجود سلام حقيقي وموافقة أطراف النزاع على نشر البعثة، والتزام حفظة السلام الحياد وعدم استعمال القوة إلّا من أجل الدفاع عن النفس.
عقب هذا التحقيق الصادم، الذي لم يحظَ بتغطية إعلامية لائقة، شكّل الأمين العام السابق، بان كي مون، في أواخر عام 2014، فريقاً دولياً تكوّن من 16 عضواً، ترأسه رئيس جمهورية تيمور- ليشتي، خوسيه راموس هورتا، لمراجعة وضع عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتّحدة عبر العالم، وخلص تقريره إلى أنّ هذه البعثات غير ملائمة للأوضاع التي لا يوجد فيها سلام يمكن حفظه، وأوصى بضرورة الابتعاد عن منطق القوّة، والتركيز على توصّل الأطراف المتنازعة إلى سلام دائم عن طريق انخراطها في عملية سياسية.
بناء على توصيات تقرير راموس هورتا، ومطالب حكومات الدول المضيفة، أنهى مجلس الأمن بعثات حفظ السلام في كلّ من هايتي وكوت ديفوار ودارفور. إلّا أنّ ثقة حكومات عديدة في قدرة الخوذ الزرقاء، والبعثات السياسية التابعة للأمم المتّحدة المُتبقية، اهتزّت في السنوات الأخيرة، في ضوء ارتفاع عدد الصراعات في العالم إلى مستوى غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وفشل مجلس الأمن في تسهيل تسويتها بطرق سلمية، بل لقد تحوّل دور الخمسة الكبار من رعاية السلام الدولي إلى تأجيج الحروب عبر العالم، خصوصاً في المنطقة العربية وأفريقيا. لقد وقف المجلس موقف المتفرّج خلال الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، والحربين الأهليتين في إثيوبيا والسودان، ولم يلعب أيّ دور وساطة قبل غزو روسيا أوكرانيا، وبعده، ثم جاءت الإبادة الإسرائيلية في غزّة لتبيّن أنّه لم يعد لقرارات المجلس وزن، حتّى بعد اعتمادها بشقّ الأنفس.
ما يحتاج إليه الفلسطينيون هو الاستجابة لنداء وحدة النضال وسيادتهم على قرار ما بعد العدوان
في ظلّ هذا الفشل غير المسبوق في تاريخ الأمم المتحدة، يعيش مجلس الأمن أزمة صامتة أحدثتها سلسلة مطالب بإنهاء بعثات حفظ السلام وبعثات العمليات السياسية الخاصة التابعة للأمم المتّحدة. منذ منتصف السنة الماضية، توصّل مجلس الأمن إلى خمس مخاطبات حكومية لإنهاء بعثتي حفظ السلام في كلّ من مالي والكونغو الديمقراطية، ولإنهاء بعثات سياسية خاصّة في السودان والعراق والصومال. ونظراً إلى مبدأ سيادة الدول، الذي يقوم عليه ميثاق الأمم المتّحدة، يجد مجلس الأمن نفسه مجبراً على قبول مطالب حكومات الدول المضيفة، على نحو تقلّص معه عدد العاملين في بعثات حفظ السلام بحوالي النصف، بعد أن تجاوز الـ120 ألف جندي وشرطي ومدني في عام 2014، الذي مثّل أوج انتشار حفظة السلام.
يجب وضع مطلب نشر حفظة السلام في غزّة في هذا السياق، الذي لا يشجّع مجلس الأمن على المخاطرة بنشر بعثة مستحيلة أخرى، بالنظر إلى فشل بعثات حفظ السلام بلا سلام، وتقلّص عددها وعدد العاملين فيها، وفشل مجلس الأمن في وقف الإبادة في غزّة وتجاهل إسرائيل قراراته كالعادة. ولذلك، كان من الطبيعي أن يذكّر وكيل الأمين العام لعمليات السلام، الفرنسي جان بيير لاكروا، في حديث إلى وكالة فرانس برس، بأنّه سواء تعلّق الأمر بغزّة أو بأماكن أخرى فلا ينبغي أن يُتوقّع من حَفَظَة السلام وقف الحروب. وفي حوار مع وكالة بلومبيرغ، قال إنّ نشر عملية حفظ سلام في غزّة سابق لأوانه، ويستدعي موافقة إسرائيل، مع العلم أنّ الأخيرة تسعى إلى تصفية عمل الأمم المتّحدة في القطاع أكثر من أيّ شيء آخر.
في الواقع، حتّى إن وافقت إسرائيل وواشنطن، معاً، على نشر قوة أممية، لن يكون وجود الأخيرة في غزّة مرادفاً لحماية المدنيين بقدر ما قد يحمل في طيّاته تعقيدات سياسية إضافية لا يحتملها الوضع في الأراضي الفلسطينية. ويكفي التذكير بأنّ وجود بعثة مراقبة وقف إطلاق النار في كشمير منذ 1948، وانتشار بعثة حفظ سلام في قبرص منذ 1964، وأخرى توجد في الصحراء الغربية منذ 1991، قد أسهم في إطالة أمد النزاع في هذه المناطق، بدلاً من تسويتها. ما يحتاج إليه الفلسطينيون، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، هو الاستجابة لنداء الفلسطينيين من أجل وحدة النضال وسيادة الفلسطينيين على قرار ما بعد العدوان، ووضع حدّ لاحتلالٍ دمويٍّ لا يُحتمل.