نحو مشروع استراتيجي لحماية القدس
مشهد تاريخي لمئات الألوف من المرابطين المقدسيين في ساحات المسجد الأقصى في ليلة السابع والعشرين من رمضان، بما يمثّل رسالة سياسية ورمزية وحضارية واضحة إلى العالمين، العربي والإسلامي، بصورة خاصة، والعالم بأسره بصورة عامة، فحواها أنّ معادلة القدس كبيرة وفاصلة.
مع ذلك، الحراك الفدائي الذي رأيناه من الفلسطينيين في الدفاع عن القدس، وما سبقه من هبّة شعبية شملت فلسطينيي الـ48 العام الماضي، تضامناً مع أهالي القدس ضد "مشروع التهويد"؛ ذلك كلّه لن يؤتي ثماره، ولن يغيّر الواقع الموجود، من دون روافع سياسية ومشروع فكري استراتيجي لإعادة تعريف طبيعة المرحلة الراهنة، و"يرسمل" الكفاح الفلسطيني، ويضعه في اتجاه تغيير قواعد الصراع، بعد أن وصل المشروع الصهيوني إلى مرحلةٍ جديدةٍ ومتقدّمة في تحقيق الحلم التاريخي بالسيطرة الكاملة على القدس وتهويدها، وتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى خطوة أخرى في مشروعٍ يسير منذ أكثر من قرن في الاتجاه نفسه.
قبل الحديث عن المشروع الاستراتيجي لإنقاذ القدس والمقدّسات، من الضروري أن نعيد قراءة ما حدث لمعرفة خطورة الوضع الراهن؛ في كامب ديفيد 1978 تمّ إخراج مصر من الصراع، وفي 2003 أُخرج العراق، وبعد 2011 أخرجت سورية (بسبب الحرب الداخلية)، ومع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (2016 - 2020) قطع المشروع الصهيوني مسافة كبيرة بفترة قياسية (نقل السفارة الأميركية إلى القدس، تحجيم عمل وكالة إغاثة اللاجئين، إعلان صفقة القرن لإنهاء القضية الفلسطينية، الاتفاقيات الإبراهيمية وعملية تطبيع واسعة تقوم على نظرية خطيرة تتمثل بإلغاء مركزية القضية الفلسطينية)، ثم المضي في عمليات تهويد القدس وتغيير وضع المسجد الأقصى.
صحيحٌ أنّ الأنظمة العربية لم تستطع مواجهة المشروع الصهيوني خلال العقود الماضية، إلّا أنّ مركزية القضية الفلسطينية والموقفين القومي والديني منها كانت ثوابت في الحدّ الأدنى في "الخطاب الإعلامي" الرسمي، وهو ما تغيّر حالياً، فلا نجد أي ردود فعل رسمية واضحة صلبة قوية في مواجهة ما تقوم به إسرائيل في القدس، حتى الموقف التركي الذي كان، ولو خطابياً، يمثل رد الفعل الأقوى على ما تقوم به إسرائيل تراجع كثيراً مع استدارات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المتتالية والمبرمجة.
أجد من المناسب هنا الإشارة إلى "قراءة مغلوطة" لمقالتي "الوصاية الهاشمية... الأخطر قادم في القدس" في "العربي الجديد" (26/4/2022)، وإلى خلط بين موقف معهد السياسة والمجتمع في عمّان وبعض الاتجاهات في السياسة الأردنية؛ فما جاء في المقال كان واضحاً في نقل آراء الاتجاهات الفكرية، لكنّ خلاصة المعهد هي المهمة التي تزيل تلك المغالطات، وتتمثل في أنّ موضوع القدس والوصاية الهاشمية والعلاقة الأردنية - الفلسطينية ذات طبيعة خاصة مختلفة عن الدول الأخرى جميعاً، ونظراً إلى تغيّر الوقائع على الأرض، فمن الضروري أن يذهب الأردن نحو مسارين رئيسيين:
الأول؛ إعادة تعريف الوصاية الهاشمية، وتوضيح ما جاء في معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية، لتأخذ، بالإضافة إلى الطابع الرمزي والتاريخي والأخلاقي للهاشميين تجاه القدس، مجالاً استراتيجياً، يقوم على أنّ القدس والمقدسات والضفة الغربية جميعاً جزءٌ لا يتجزأ من الأمن القومي الأردني، ويمسّ استقرار الأردن ومصالحه الاستراتيجية والأمنية.
الثاني؛ أنّ المقاربة الأردنية تتطلّب مراجعة كبيرة في ما يتعلق بالسيناريوهات المستقبلية، فمن الضروري أن يبدأ التفكير في الانخراط والاشتباك بدرجة أكبر وأعمق مع الملف الفلسطيني، ومع القوى المختلفة، وأن يكون هنالك توسيع لهامش السيناريوهات والتصوّرات والتعامل مع مختلف الشخصيات والقوى، لأنّ معركة الضفة الغربية والقدس سياسياً ودبلوماسياً هي معركة الأردن، وتؤثر عليه بدرجة كبيرة.
واضحٌ أنّ البنية السياسية الحالية للسلطة الفلسطينية لا تستطيع حمل موضوع القدس والمقدّسات، ولا التفكير في تطوير الإطار الاستراتيجي للمقاومة السلمية الداخلية. لذلك، المطلوب منظور استراتيجي وفكري جديد للمرحلة الراهنة من الصراع، ضمن قراءة معمّقة وموضوعية للمتغيّرات الأخيرة والمتوقعة، خصوصاً مع انتهاء اليسار الإسرائيلي، وسيناريو عودة الجمهوريين في الولايات المتحدة، وبقاء جاريد كوشنير (خلف الكواليس) ودوره الخطير في ما يحدث بين العرب وإسرائيل.