نحو استراتيجية أميركية في شبه الجزيرة الكورية

21 مارس 2021
+ الخط -

انتهت سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي انتهجتها إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، حيال كوريا الشمالية إلى صفر سياسي، ومنحت الأخيرة مساحةً واسعةً لتطوير أسلحتها وقدراتها العسكرية. أما دبلوماسية إدارة الرئيس، دونالد ترامب، التي كسرت الأعراف الدبلوماسية، فعجزت بعد قمم ثلاث عن سد الفجوة بين الموقفين: الأميركي؛ المتمسّك بمطلب تخلي كوريا الشمالية عن برنامجها النووي وصواريخها بعيدة المدى مقابل تخفيف العقوبات، والكوري الشمالي الذي أصرّ على تخفيف العقوبات في مقابل خطواتٍ محدودةٍ لتقييد برنامج بيونغ يانغ النووي. صحيحٌ أن كوريا الشمالية لم تعلن عن أي تجارب نووية منذ العام 2018، لكن ذلك لا يعني أن توقفها عن أنشطتها النووية بات أمرا مسلّما به، فقد كشف تقرير سرّي للأمم المتحدة أن كوريا الشمالية حافظت على برامجها النووية والصاروخية وطوّرتها طوال عام 2020 في انتهاك للعقوبات الدولية، وموّلتها بحوالي 300 مليون من الدولارات المسروقة خلال القرصنة الإلكترونية ("رويترز"، 8 فبراير/ شباط 2021). وجاء هذا التقرير السنوي للجنة عقوبات كوريا الشمالية التابعة لمجلس الأمن بعد أسابيع فقط من تولّي الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه، والذي أعلن عن تبنّي "سياسة مبدئية" تقوم على مواصلة الضغط لنزع سلاح بيونغ يانغ النووي، والحفاظ على شبه جزيرة كورية موحّدة، كما أعلنت إدارته على لسان وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، أنها ستطلق مراجعة شاملة لنهج واشنطن تجاه كوريا الشمالية، بغية بلورة استراتيجيتها تجاه تحقيق الاستقرار في شبه القارة الكورية. ما هي ملامح تلك الاستراتيجية الجديدة تجاه بيونغ يانغ، والتي يمكنها أن تجنّب الإدارة الأميركية الجديدة الفشل الذي انتهت إليه جهود الإدارات السابقة؟

من الضروري أن تتخلى الاستراتيجية الأميركية المقبلة عن نهج إدارة ترامب المتشدّد حيال السلاح النووي الكوري الشمالي ومع الإبقاء على هدف نزع ذلك السلاح

باتجاه بلورة هذه الاستراتيجية، تسعى إدارة بايدن إلى التشاور مع اليابانيين والكوريين الجنوبيين، ومع مسؤولين أميركيين سابقين عملوا في إدارة ترامب. سعى المفاوضون الأميركيون والكوريون، في عهد بايدن، للتغلب على سنواتٍ من المناقشات المثيرة للجدل، في عهد الإدارة السابقة، وصولا إلى اتفاقٍ مبدئيٍّ بشأن دفع تكاليف وجود القوات الأميركية في كوريا الجنوبية. كانت هذه الاتفاقية، إلى جانب اتفاقية مماثلة مع طوكيو، في صلب محادثات وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، مع المسؤولين اليابانيين والكوريين الجنوبيين في أول رحلة خارجية لهما بدآها الاثنين الماضي (15 مارس/ آذار) إلى طوكيو وسيول. وإشراك الحلفاء ينبغي أن يكون أيضا جزءا من هذه الاستراتيجية الجديدة، ويتوقع من هذه الجولة أن تؤسّس نهجا مهدئا ومتوازنا للعلاقات مع طوكيو وسيول، بعد أربع سنواتٍ من مزاجية ترامب في تعامله مع حلفائه في آسيا وأوروبا. ينبغي على الاستراتيجية المقبلة أن تحدّد بدقة مصالح واشنطن وقيمها لمنافسيها وشركائها. قد يكون توجيه الرسائل التحذيرية إلى المنافس الصيني مفيدا، على نحو تلك التي وجهها بلينكن بشأن مطالبة الصين بالسيادة على مناطق واسعة في بحر الصين الشرقي وبحر الصيني الجنوبي، لكن التعاون مع الصين مفيدٌ أيضا في بعض المجالات، مثل تغيرات المناخ، ومواجهة وباء كورونا. وسيتطلب الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية تعاونا صينيا، ولكن الولايات المتحدة لا ينبغي لها أن تعوّل أكثر من اللازم على دور صيني على حساب حلفائها الآسيويين، فعلى الرغم من حماسة صينية لكبح جماح كوريا الشمالية لتضمن عدم تجاوزها خطوطا حمراء تجلب تحرّكات أميركية من شأنها تقويض أمن الصين، فإن كوريا الشمالية المسلحة نوويا ستكون قلعة جيواستراتيجية مفيدة في المنافسة الصينية الأميركية.

أظهر النظام الكوري الشمالي تصميما وقدرةً في الحفاظ على البقاء

من الضروري أن تتخلى الاستراتيجية المقبلة عن نهج إدارة ترامب المتشدّد حيال السلاح النووي الكوري الشمالي، ومع الإبقاء على هدف نزع ذلك السلاح، ينبغي أن تتم إعادة صياغته بطريقة أكثر واقعية، لجعله قابلا للتحقيق، وتكمن أهم سبل ذلك في إقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية جديدة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية تضمن تقليص التوترات. لا بد من تقبّل عملية نزع سلاح تدريجية بالتوازي مع التأسيس لنظام للسلام في شبه الجزيرة الكورية؛ معالجة للمخاوف الكورية الشمالية المعلنة بشأن "السياسة العدائية" للولايات المتحدة؛ ضمان أمن واشنطن وحلفائها.

بذلت إدارة بايدن جهودا للتواصل مع الكوريين الشماليين، خلف الكواليس، منذ منتصف الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، ولم ترد بيونغ يانغ. يُبقي الزعيم الكوري الشمالي الكرة في الملعب الأميركي، ولن يتردّد في افتعال الأزمات، لتحسين موقفه في أي جولة مفاوضات محتملة. في هذا السياق، تأتي تصريحات شقيقته، كيم يو جونغ، التي انتقدت المناورات العسكرية الأميركية الكورية الجنوبية التي جرت أخيرا، وهدّدت فيها بإلغاء الاتفاقية العسكرية بين الكوريتين الموقعة عام 2018. في مواجهة التصعيد، يمكن لإدارة بايدن إظهار عدم التساهل، لكن أيضا مع إيصال رسالة واضحة تتمثل في أن التقدّم في نزع السلاح النووي سيقابله تقدّم تدريجي بشأن الضمانات الأمنية، ومعاهدة سلام دائمة بعد التخلص من السلاح النووي.

يُبقي الزعيم الكوري الشمالي الكرة في الملعب الأميركي، ولن يتردّد في افتعال الأزمات، لتحسين موقفه في أي جولة مفاوضات

طوال سنوات، أظهر النظام الكوري الشمالي تصميما وقدرةً في الحفاظ على البقاء. كان كيم جونغ أون يراهن على أن توسيع ترساناته النووية والصاروخية سيقنع الولايات المتحدة بالمشاركة في "محادثات الحدّ من التسلح" التي من شأنها أن تقبل ضمنيا بكوريا الشمالية قوة نووية، وترفع عنها العقوبات، لكن الأزمة الاقتصادية اليوم باتت نقطة ضعف رئيسية لبيونغ يانغ، فوفق تقارير للأمم المتحدة، تواجه كوريا الشمالية نقصا حادّا في الغذاء، بعد فيضاناتٍ دمّرت مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الزراعية العام الماضي، في ظل عقوباتٍ دولية، وإغلاق الحدود بسبب جائحة فيروس كورونا. وقد اعترف كيم نفسه مطلع العام الحالي (2021) بأن السنوات الخمس الماضية كانت "الأسوأ على الإطلاق" في بلاده. وعلى الرغم من تعهّده بجعل اقتصاد البلاد مكتفيًا ذاتيًا، بقي الاقتصاد في حالةٍ يُرثى لها، مع تعطّل آلية التخطيط الحكومية، والانخفاض الحاد في احتياطي النقد الأجنبي، وتقلص الإيرادات، وانهيار التجارة الخارجية، وتراجع النمو، والإصرار على تحويل الموارد الشحيحة لتوسيع برامج الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية.

فشلت جهود الإدارات السابقة في تغيير حسابات كيم، ولدى بايدن اليوم فرصة مناسبة لإقناعه بأن سعيه إلى امتلاك أسلحةٍ نوويةٍ يمكن أن ينهي نظامه. لذا تحتاج أي استراتيجية جديدة أن تستند إلى معرفةٍ دقيقةٍ بالاحتياجات والمخاوف التي تحرّك كيم جونغ أون، وتبرّر التكاليف الاقتصادية والسياسية الهائلة لصموده، وما إذا كان بإمكانه الحفاظ على برامجه الحالية إلى أجل غير مسمى، من دون تقويض أهداف النظام الأخرى؟ عامل الوقت هو في صالح بيونغ يانغ، فبمجرد أن يتراجع الوباء، ستستأنف المساعدات الصينية، وستتراخى قبضة العقوبات بعودة بيونغ يانغ إلى استراتيجيات التهرّب الناجحة. الفشل، هذه المرة، قد يعني أن تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرّة للاعتراف الضمني بكوريا الشمالية قوة نووية، مكتفيةً بالبحث عن ضماناتٍ صارمةٍ لمنع انتشار المواد والخبرات النووية منها إلى دول أخرى، أو جماعات إرهابية.

أخيرا، ينبغي لأي استراتيجية جديدة بشأن كوريا الشمالية أن تكون جزءا من استراتيجيةٍ أكثر شمولا تعالج قضايا الانتشار والتسلح النووي، بما يتناسب مع المعاهدات الدولية، لا انطلاقا من حسابات المصالح الأميركية وحاجات أمنها القومي، وإلا فستستمر إيران وكوريا الشمالية عنوانين عريضين للفشل الأميركي.